من هو عباس عزقون؟ الشاب الذي احتلت صورته الجرائد وهو يشطب بسكينه صدره احتجاجاً على مصادرة دراجته النارية قبل أيام في الحمرا؟ من أين أتى؟ كيف يصل الإنسان إلى هذه النقطة من أذيّة النفس... دفاعاً عنها؟ «الأخبار» زارت الأسرة للتعرف إلى أوضاعها، فقصة عباس هي قصة المهمّشين أيضاً، وخلال الزيارة فوجئنا بالخبر السّار: عباس طلع؟ قالت الوالدة وهي تبتسم
ضحى شمس
لم يقرأ عباس عزقون التقرير الذي جعله يحتل صفحتنا الأولى، الأربعاء الماضي. فعباس، الذي شاهد اللبنانيون صورته بصدر عارٍ ودامٍ، إثر جروح أحدثها بنفسه بواسطة سكينه احتجاجاً على مصادرة القوى الأمنية لدراجته النارية، لا يعرف فعلياً القراءة والكتابة، لكونه لم يتجاوز الصف الثاني الابتدائي. السبب؟ ببساطة: «ما كان يتعلم»، هكذا تقول والدته التي التقيناها في منزل العائلة المتواضع في منطقة زقاق البلاط. وكيف يقتنع أهل أن طفلهم «ما بدّو يتعلم»؟ العلم عند الله.
أما الوالد، فقد رفض أن يرافقنا ليدلّنا على منزله. أشار من مكان سهره عند «بوابة» الحي أن نسأل: «والكل بيدلّوكي بس ما خصّني».
التمنع عن الإشارة إلى المنزل، كان سمة مشتركة بين من صادفناهم في الحيّ. يبدو الحيّ غير فخور بـ«بطله المضاد»، بمن يمثل ما يمكن أن يكون عليه حالهم، شيء ممكن أن يحصل لأي بيت هنا، فمقادير «الوصفة» هي هي: فقر وبطالة وتسرب مدرسي، بيوت غير لائقة بالعيش الكريم، يتكئ بعضها على بعض، ويتداخل بعضها ببعض، كما ينمو أي حيّ عشوائي.
موعدنا كان ليلاً. وبالطبع، كانت الكهرباء مقطوعة. تدخل في زاروب أشار إليه صاحب دكان من طرف لسانه. لا تتصوّر أن هناك بيوتاً. ولكن بلى: ها هو البيت: باب الغرفة الضيّقة أي «الصالون» مفتوح على الحوش، يجلس على الكنبة العم وزوجته، أما على الكنبة الأخرى التي تستخدم أيضاً كسرير، فقد جلست زوجة الأخ الأكبر محمد، وأخته وطفلها المعوّق.
ما الذي حصل. نسأل الوالدة أم محمد، فتبادرنا بالقول: «ما بدي ضرّ حدا يا بنتي». لكن هل أوكلت محامياً له؟ فتفاجئنا بقولها: «ما عرفتي؟ عباس طلع اليوم (أول من أمس)».
كيف خرج؟ تروي الأم التي زارته في مبنى الشرطة العسكرية، الليلة السابقة، أن المحكمة العسكرية أطلقت سراحه «عرفوا أنه مظلوم». ثم، تبدأ الكلام بالقول: «والله الصبي منيح، بس شو بدي قلك؟ الحياة ضيقة كتير. كل شي بدّو هالصبي إنو يشتغل. والله ما في أطيب منو. القلّة مرضتنا».
عند الشرطة العسكرية كلبشني بالباب ورشّ على جروحي كولونيا
«هل طبّبوا له جروحه»؟ ترد الأم بغضب: «أي تضميد؟ لما رأيته كان سابحاً بالدم، كأنك دلقت على صدره ركوة تفل قهوة». تشرح لنا أن الدماء كانت متخثرة على جروحه. «قال لي إنهم أعطوه قنينة مطهّر حتى يمسّح حاله. كيف يفعل وهو نزف كل دمه؟». تستشيط سلفتها غضباً فتقول: «يا إلطاف، شو قصتك؟ أنا محلك لبهدل العالم. قال ما بدّو تقطيب جروح؟ طيّب، بلكي بدو إبرة كزاز؟ بلكي هالسكين ما كان نظيف؟».
لكن، إن كان قد خرج، فأين هو ؟ يصل محمد، شقيقه الأكبر، في هذا الوقت ويحاول مع زوجته الاتصال به، لكن أحداً لم يردّ. نسأل الوالدة أن تروي ما حصل؟ فتقول: «إجا هالصبي الصبح عم يقللي: اعمليلي لقمة يا إمي حتى روح عند شركة (..) للسجاد، بلكي بيقبل يشغّلني»، ثم تضيف: «كان قد طلب من عمه أن يتوسط له عند التاجر لأنه يعرفه. قال له: الفراغ يا عمي هلكني. رح موت من قلة الشغل ومن قلة المصاري، المهم. لفّيت له لقمة بفتاك. أكلها وقال إنه سيحاول أن ينام لأنه كان ينتظر الجواب. قال لي: إذا ما أمّنت على هالشغلة رح جنّ يا إمي».
وبعد؟ تتابع السرد: «قال رايح مشوار. لوين؟ قال عالحمرا. قلت له: يا إمي ما تاخذ الموتسيكل، ما ردّ عليي، ساعة زمن إلا وبيجي واحد بيقللي: يا إم محمد ابنك علقان مع الدرك»، ثم تقول: «والله يا بنتي مش دافع بعد من حقّها شي. أخذوها، جنّ».
تنظر حواليك والسيدة تقدم لك كوب العصير، 5 أشخاص يعيشون في هاتين الغرفتين الضيقتين. بينهم طفل معوّق، وشاب عاطل عن العمل، وأخت تعاني من آلام نفسية. تقول إن عباس سألها عن مقالة الجريدة: هل قرأها؟ نسأل، فتجيب أنه لم يصل إلا إلى الصف الثاني ابتدائي لأنه «ما بدو يتعلم». يستدرك أخوه: «بس بيعرف يقرا... تعلم من التلفون». التلفون؟ يجيب باسماً: «كان يحب واحدة وصار يبعتلها إس إم إس»، تبتسم الأخت وهي تقول: «الحب بيخلّي الواحد يتعلم». تستأنف الأم الحديث: «ما كان يتعلّم، حطّيته عند حلاق، عدة أشغال... ما مشي الحال. من وقت لآخر يعمل مع أخوه في الدهان، لكن حتى في الدهان ما في شغل».
«هيّاه»، يهتف الأخ الذي كان يجلس مقابل الباب، تبتسم وجوه العائلة لدخول عباس وصديق له. نسأله أن يروي ما حصل منذ توجّهه إلى المخفر. «قيل لي إن الجريدة كتبت أنهم أخذوني عالمستشفى وطبّبوني. ما حدا طبّبني. أنا تحمّمت لوحدي عند الشرطة العسكرية وغسلت جروحي»، وماذا عن مخفر الطيونة؟ يجيب: «لم أدخل مبنى المخفر. بقيت خارجاً لأنهم وعدوني بأن يجلبوا لي الموتسيك. لكنهم كذبوا عليي. ثم قال أحدهم إنه مسؤول وطلب مني أن أضبّ السكين. ضبيته فكلبشوني». يتابع سرده: «بالشرطة العسكرية كلبشني الشرطي بالباب، ثم رشّ على جروحي كولونيا... إنو عم يتمسخرني». بعدها؟ «أدخلوني على النظارة بالمحكمة العسكرية، وهناك كانوا كتير أوادم. قالوا لي ستخرج الساعة الخامسة، وفعلاً وفوا بوعدهم»، ثم يضيف: «الجيش بيِسْوَا الدّنيا كلها. أحلى عالم». والآن؟ يجيب بتنهيدة: «بدي ادفع شي 250 دولار بس مش قادر. رح حاول دبرهم بهاليومين، إذا ما تيسّرت..». دمعة حائرة في عينه. لكنه لا يفلتها. تسأله لماذا لم يسجّل الدراجة؟ يجيب: «جايبها بالتقسيط، قلت لنفسي: أشتغل عليها ومن أجرتي أوفي ثمنها. شويّة شويّة بعملها قانونية. القانوني حقّو مصاري». ويسأل فجأة: مين حطّ العنوان (الغلاف): دراجتي جسمي حياتي؟، فأجبناه. فيردّ: «فظيع، كأنو بقلبي».