بدأت منذ شهور عملية ترميم بيوت مدينة صيدا القديمة وتأهيلها. ورشة كبيرة تجري بسرّية وتكتّم. فالمسؤولون عن مؤسسة 1ere Urgence التي تُعنى بتنفيذ المشروع الرائد ترفض التكلم مع وسائل الإعلام والأهالي المستفيدون من التأهيل يخشون ردّة فعل المؤسسة. لماذا التخفّي والمشروع شرعي ويحظى بموافقة الجهات المسؤولة، أم الخوف لكون السكان من الفلسطينيين؟
خالد الغربي ــ جوان فرشخ بجالي
العيش داخل أسواق صيدا القديمة ليس بالأمر السهل. الأسباب لوجيستية بحتة. فالمدينة لا تدخلها السيارات، وليس فيها شبكة بنى تحتية متكاملة. وسكان هذا الجزء من المدينة هم من البؤساء الذين يقبلون أن يعيشوا في ظروف حياتية «مستحيلة» بسبب تدنّي بدل الإيجارات. والمعروف أن عدداً كبيراً من سكان صيدا القديمة قد أخلوا، في بداية الثمانينات، بيوتهم وانتقلوا للعيش في الأحياء الجديدة والراقية في المدينة، فتُركت البيوت القديمة التي لم يلبث الفلسطينيون الباحثون عن إيواء خارج المخيمات أن سكنوا فيها. وحافظ هؤلاء السكان على نمط الحياة التقليدي في تلك الشوارع الضيقة، وأبقوا المدينة القديمة «حية» ولها طابعها وهويتها الخاصين. ولكنّ المحافظة على هذا الإرث لم تأتِ ببساطة، فمساكن هؤلاء السكان تفتقر إلى أبسط مقوّمات البنى التحتية، وبعضها تكاد سقوفها وجدرانها الرملية تهوي. خلال السنين الماضية، تنافست المؤسسات والجمعيات على إتمام الترميمات في المدينة القديمة لإبراز الوجه التاريخي لصيدا. مؤسسة الحريري كانت أول العاملين في المكان مع ترميم خان الإفرنج، ثم لحقتها مؤسسة عودة، فمؤسسة دبانة... ومن ثم بدأ المالكون بترميم محالهم ومقاهيهم لاستقبال السياح والزوار. لكن، لم يُعنَ أحد، حقيقة، بوضع سكان المدينة القديمة، وخاصة الفلسطينيين منهم، حتى بدأ منذ شهور قليلة مشروع مؤسسة 1ere Urgence (منظمة فرنسية أهلية مموّلة من السوق الأوروبية المشتركة تهتم بشؤون اللاجئين الفلسطينيين خارج المخيمات الفلسطينية)، الذي يهدف إلى ترميم عشرات المنازل القديمة بهدف تمكين سكانها، وخصوصاً الفلسطينيين منهم، من البقاء داخلها.
وقد استفاد من هذا المشروع الذي اصطُلح على تعريفه بـ«الترميمات الخفيفة» نحو ستين منزلاً في مرحلة أولى، والعدد مرشّح إلى الارتفاع. وهناك تصوّر لزيادة العدد واستهداف منازل أخرى، إذ تقوم الفرق الهندسية بدراسة أوضاع منازل أخرى. وفي اعتقاد محمود العابد، أحد أبناء المدينة القديمة، أن «مشروع الترميمات يطال مباشرة الناحية الاجتماعية والمعيشية للمواطنين وسكان الجزء القديم من المدينة، وليس هدفه إبراز الطابع الجمالي والتراثي للمدينة القديمة، على أهمية هذا الإبراز، أو إماطة اللثام عن الأحياء والمحال وطابعها الرملي التراثي». ويرى العابد أن «تحسين البيئة الاجتماعية يساعد الأهالي على البقاء والصمود، ويهتم بالبشر لا بالحجر فحسب. فالمحافظة على الإرث التاريخي تكون في حماية البشر وتوفير حياة أفضل لهم».
سقف التقديمات ليس موحّداً، بل تمليه متطلّبات واحتياجات كل منزل وسلّم أولوياته التي دائماً ما تكون مختلفة بين منزل وآخر. فالأولوية لمنزل ما قد تكون معالجة النش، بينما قد تكون الإضاءة أولوية منزل آخر. مثلاً، منزل أبو أحمد الصيداوي، في حي السبيل، يعاني من نش مزمن تنتج منه رائحة عفونة ورطوبة تؤذي صحة أفراد أسرته المؤلفة من سبعة أفراد، «عولج النشّ وتخلّصت من تلك الآفة المضرّة صحيّاً وبيئياً ومن تحوّل منزلي خلال الشتاء إلى بحيرة». أما الحاجة أم عفيف التي استفادت من المشروع وأعيد تأهيل منزلها فقالت إن «منزلها كان سابقاً لا يُعرف ما إذا كان منزلاً أو تخشيبة، إذ كان يفتقر إلى وجود حمام وأدوات صحية ونوافذ خشبية، ورمّمت «السقوفية» ووُرّق المنزل وحُسّنت الإضاءة داخله»، وبات في وسع نبيل رحيل زيارة خالته التي يحبها كثيراً، حيث كانت الرطوية والعفونة تمنعانه من زيارتها: «كل شيء جيد والمنزل المؤلف من ثلاث غرف صغيرة وحمام ومطبخ بات باستطاعة أصحابه الاغتسال والاستحمام متى رغبوا في ذلك، لا كما كان سابقاً نتيجة وجود الحمام في غرفة ملحقة بالمنزل».

خوف

العمل جارٍ اليوم في مدينة صيدا بإشراف مؤسسة 1ere Urgence. وعلى الرغم من محاولاتنا المتكررة لمواكبة ما يجري مع المعنيين، فوجئنا بأنه تُضرب لنا المواعيد بعد أسبوع أو عشرة أيام، لكن لا يأتي أحد من المسؤولين، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن المؤسسة لا تريد للصحافة أن تنشر وتقوم بعملها. وفي أكثر من مرة قال لنا مسؤولون في المؤسسة، راجعناهم في هذا الأمر: «هناك معلومات ليس في استطاعتنا ذكرها». والغريب أيضاً هو خوف السكان الذين تؤهّل بيوتهم والذين كانوا يرددون: «ما بدنا نزعّل الشركة».
لماذا هذا الخوف والتردّد؟ هل تأهيل البيوت القديمة التي يسكنها الفلسطينيون في صيدا من الممنوعات؟ هل كان يجب أن يبقى مستوى حياتهم دون ما يقبله العقل على أمل إخلائهم للمدينة التي كانت تنوي بعض الجهات تحويلها إلى مركز سياحي رائد؟ هل السكوت عن المشروع هو لإنجاحه خوفاً من «غضب» المتموّلين الذين كانوا يرون في تلك الأحياء مزايا سياحية؟