أسامة العيسةعادت الحفريات حول حائط البراق، الذي يطلق عليه الإسرائيليون تسمية حائط المبكى، إلى واجهة النقاش في إسرائيل. فجمعية “تراث حائط المبكى” قررت تمويل إنشاء متحف أثري على الموقع، وسيدمّر هذا البناء جزءاً من الطريق الرومانية، التي كانت تصل القدس بعاصمة الإمبرطورية. وكانت جريدة «هآرتس» قد حاولت في مقالتها، التي نُشرت مطلع الأسبوع الجاري، إبراز احتدام النقاش بين علماء الآثار الإسرائيليّين، الذين يحاول بعضهم أن يعدّ قرار تدمير جزء من الطريق الرومانية بمثابة تدمير لتاريخ “غير توراتي”. والمضحك أن هذه المقالة تحاول أن تبرز النقاش بشأن المحافظة على الآثار بموضوعية، ومهنية، وتتغاضى عن النظر في شرعية الحفريات الأثرية في هذا المكان.
دولياً، لم تحدّد بعد “الهوية السياسية للقدس”، التي تعدّ منطقة نزاع، لذا يجب أن تطبّق فيها تشريعات معاهدة لاهاي 1958، الخاصة بمناطق النزاع المسلح، التي تحرّم الحفريات الأثرية في هذه الحالة. وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل وقّعت الاتفاقية ولكن لم تحاول أيّ جهة عالمية أن تشكوها أمام المحاكم الدولية لإيقاف هذه الحفريات، التي تتنازع الجهات العربية والفلسطنينة أمر تقديم الاحتجاجات ضدها. وقد كثر الكلام عن حفريات “حارة المغاربة” في الصحف العربية التي تقابلها الصحف العبرية بتسمية “ساحة حائط المبكى” منذ سنة 2004 حين هُدمت تلة باب المغاربة، لبناء جسر يُمكّن قوات الأمن الإسرائيلية من اقتحام المسجد الأقصى، الذي تسيطر عليه إسرائيل منذ الاحتلال. كان القرار الأمني هو الهدف المعلن لعملية الهدم، لكن السبب الحقيقي كان إتمام الحفريات الأثرية عبر بوابة باركي، للتأكّد من وجود آثار لبقايا الهيكل الثاني. هدأت العاصفة الإعلامية العربية بشأن هذه الحفريات، لكنّ عمل العلماء الإسرائليين ونقاشاتهم لم يتوقفا. هناك “تضارب مصالح” بين جميع من يشارك في الحفريات غير الشرعية في القدس، يُولّد نقاشاً ويمتدّ إلى الآثاريين في دول مختلفة من العالم لأسباب مختلفة. هناك، مثلاً الذين يوجّهون النقد تلو الآخر، لأسباب غير محدّدة، لكنهم يقولون إنها مهنية، لما تفعله السلطات الإسرائيلية بتراث يفترض أنه يخصّ الإنسانية جمعاء. ويهمس الآثاريّون الذين يحفرون الآن في القدس، بأن سابقيهم يوجّهون نقدهم، وتحدوهم مشاعر الغيرة، لأن كشف أيّ شيء مهمّ في هذه المنطقة كفيل بأن يجلب لصاحبه النفوذ الذي يتجاوز إسرائيل، إلى دهاليز المؤسسات الأكاديمية والدينية والاقتصادية والإعلامية في غير مدينة عالمية. والصراع محموم بين الجمعيات التي تمثل المستوطنين، وتلك التي تعبّر عن المجموعات الدينية المختلفة، والأخرى التي تتنافس الهيئات الحكومية والوزارات على الاستحواذ عليها، وأبرزها مركز الحفاظ على تراث حائط المبكى، وكل هذا يجعل ما يجري، فيما كانت حارة المغاربة مدار اهتمام باستمرار في إسرائيل وإن انتهى عن المتابعة عربياً. وتحاول إسرائيل إبراز صورتها كمحافظة على تراث حائط المبكى عبر إنشائها الدائم لمتاحف حديثة ومتطورة على الموقع، تبرز خلالها تاريخه “التوراتي” بشكل بحت: إسرائيل تُعدّ اليوم استملاكها التاريخي لمدينة القدس.