حسان الزينامتازت الثقافة اللبنانية وحياتها ومحترفوها، التي اختبَرت الحربَ والانتماءات الأيديولوجية والحزبية على أنواعها، بالنقدية التي تولّد الحرية وتحتضنها وتنمو بها. من بداية تجربة الحداثة الشعرية، والسجالات بين المثقفين وبينهم وبين الأطر السياسية والعقائدية، ونقد المثقفين للتجارب الحزبية الأخرى التي انتمَوا إليها على حد سواء، ثم قراءة المثقفين للحرب والنظام والأحزاب والعقائد والمذاهب، والسمة الغالبة في الثقافة اللبنانية هي نقد المؤسسات السياسية والعقائدية والتمرّد عليها والتفلّت من الطائفية والمذهبية وعياً وأطراً.
جيل مجلة «شعر»، يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس وشوقي أبي شقرا، أسّس لذلك. مهّد للاانتماء السياسي والعقائدي، وحتى المجتمعي العام. ومعه، على مقربة منه، مع فؤاد كنعان ويوسف حبشي الأشقر، انتقلت البذرة إلى الأجيال التالية. عند عباس بيضون وبول شاوول وإلياس خوري وحسن داوود ومحمد العبدالله وحسن العبدالله وأنطوان الدويهي وأحمد بيضون ورشيد الضعيف وآخرين، نما نقد التجارب الحزبية والأيديولوجية، نقد الكوكب والوجود والسائد والأدب... هؤلاء لم يورّثوا التالين إلا العبث المفتوح على الفردية والتجريب. لم يفعلوا شيئاً أفضل من ذلك، ولا أجمل. أطلقوا طلقات، نعم، وطاقات أيضاً. أبدعوا في ذلك. القيمة الأرقى لهم أنهم قدّموا أنفسهم وتجاربهم السياسية والعقائدية والحزبية والإبداعية كمسوّدات، من دون عقيدة الخلاص.
ومن تلاهم لم يقصّر، في المجال هذا. صار النقد والعبث واللاانتماء، مع بسام حجار ويحيى جابر ويوسف بزّي وبلال خبيز وجوزف عيساوي ومحمد أبي سمرا ومحمد شمس الدين وشبيب الأمين وغيرهم، منجمَ الثقافة وشارعها وكتّابها ومسرحها وفيلمها ولوحتها. لم يهجر المثقفون الأحزابَ وحسب، بل جلدوها ومسحوا الأرض بالسياسة ومشاريعها، كما في أعمالهم كذلك في حيواتهم.
اليوم، ثمّة انقلاب. نهر النقد، نقد السياسة والعقائد والأحزاب والزعامات والمشاريع والحروب، توقف. كأن من تعلّم، من مختلف الأجيال، نسي الدرس، أو الدروس. الخريطة الثقافية للنقد السياسي غرقت أجزاء كبيرة منها. ما تراكم وبُني أُقفلت مداخله ومخارجه. يكاد يغدو بعين واحدة. فسحة اللعب كانت قصيرة، وأقصر منها النَّفَسْ. الثقافة بردت والعبث انتهى أمره، صار بين الوجه والقناع للمثقفين الشباب الذين يبوحون به في دوائرهم الضيّقة. والوظيفة والسياسة خَطفَتا المثقفين، أو معظمهم، على الهوية. جمالية النقد والعبث وتجريبيتهما الإبداعية والإنسانيّة انتهتا في مصارف الانقسام والانتماءات المستجدّة. نقد الأحزاب والسياسة بات انتقائياً بعدما كان «شاملاً». ما قِيل في السابق، في هذا الإطار، اختُزل ليغدو مطرقة انهالت على تجربة اليسار خصوصاً. كأن ما صُوِّر نقداً للأحزاب والتحزّب وللسياسة والتسيّس، لم يكن أكثر من ثرثرة فوق تجارب شخصية. وكان يوحي أنه تأسيس لوعي نقدي أصيل ومتين. وما يُقال الآن، في نقد الأحزاب والسياسة، غالباً ما هو نقد لحزب ولسياسة، للحزب الآخر وللسياسة المختلفة. وكأن النقد، الذي كان، كان أسرع طريق إلى تغيير الانتماء، أو تجديده.
حصل الانقلاب مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن بذوره بدأت في النصف الثاني من التسعينيات. ففيما كانت الغالبية العظمى من المثقفين في الموقع النقدي تجاه السياسة ومشاريعها ومؤسساتها ورجالاتها، كان جوزف سماحة وسمير قصير وإلياس خوري (مثلاً) يقدّمون، كلٌّ باتجاهه، نموذجاً للمثقف الذي يحافظ، مع نقديته، على قضية محورية هي بمثابة مسلّمة تربط المثقف بالسياسة والأيديولوجيا... والواقع (سماحة ـــــ العروبة، قصير ـــــ الاستقلال، وخوري ـــــ فلسطين). كأن هؤلاء كانوا إشارات سير تذكّر دائماً بوجود طريق بين المثقف والسياسة والانتماء. كانوا، مع غيرهم متّفقين معهم ومختلفين أيضاً، حصانَ طروادة السياسة في الثقافة، علماً بأن النقد الثقافي للسياسة يبدو الآن كأنه كان يخفي، لدى الكثيرين، السياسة. وإلا، فكيف تُفسّر عودة غالبية المثقفين إلى السياسة ومتاريسها.
في الوقت نفسه، كان مشروع الرئيس رفيق الحريري يجذب مثقفين، ولا سيما ممّن يعملون في المؤسسات الثقافية والإعلاميّة، أو يسعون إلى العمل فيها. هكذا، بات لسكة الانقلاب على النقد والعبث خطان بل وعربات يتنقل في ما بينها الركاب بحرية. وبقي الانقلاب يتدحرج جنينيّاً تدحرجاً غير واضح حتى اغتيال الحريري وانتفاضة الاستقلال الثاني. وقتذاك اتخذ كل مثقف موقعه. وبات المشهد الثقافي سياسياً ومنقسماً، مع أرجحيّة واضحة لشعارات الاستقلال والسيادة وقواها.
اللافت، في ظل هذا المشهد، أن تجد حازم صاغية وعباس بيضون، مثلاً، أقلَّ حدّة من آخرين تتلمذوا عليهما وشربوا من جدوليهما في نقد التجارب الحزبية والسياسية والشخصيّة. كأن قلق البحث والحرية خفت عند الآخرين، غيرهما، الذين سقطوا فجأة في فخ الانقسام والانتماءات. حتى بسام حجار الذي ذهب بعيداً في تجربته النقدية واللاسياسية، الفردية والأدبية الخالصة، عاد، قبل وفاته (2009) بسنوات قليلة، إلى السياسة الأقرب إلى الحزبيّة.
لعلّ الحراك الاجتماعي والسياسي في البلد سبب رئيسي لذلك، لكن هناك أيضاً الفراغ العام، السياسي والاقتصادي، الذي حلّ بدلاً من النقد والعبث الثقافيين والإنسانيين.