سعد الله مزرعاني *كان لينين، مفجِّر الثورة الروسية ومؤسّس أوّل دولة اشتراكية في العالم، يعتبر أنّ «اللحظة الثورية» تحصل عندما يصبح الحاكمون عاجزين عن الحكم، والمحكومون عاجزين عن تحمّل الأزمة. ووفق سيناريو جدلي مدهش، ما بين النظرية والتطبيق، وبين الإعداد والتنفيذ، وبين توقّع الأحداث وحصولها، سارت أمور تحضير الثورة الروسية الكبرى عام 1917 ومن ثمّ انتصارها، وفق مجريات شبه قدرية (لو كان لينين يستلهم منهاجاً إيمانياً لاعتبر انتصاره إلهياً صافياً!).
الطرف الثالث في معادلة «اللحظة الثورية» بين الحاكم والمحكوم هو، حسب لينين، الحزب الثوري. هذا الحزب هو الذي أعدّه ودعاه لينين (وقاده) إلى معرفة اللحظة الزمنية المناسبة التي قد تكون اليوم مبكرة، وغداً أو بعد غد متأخّرة!
صُنّف لينين بسبب أساليبه التنظيمية وسياسته ونظرياته في حالتي الهجوم والدفاع، «تكتيكي الثورة الأوّل في العالم». هو يستحق اللقب دون منازع وبكلّ الجدارة التي لم ينل من تأثيرها ودورها التاريخي إلا أولئك الذين اعتبروا أنّ الثورة الروسية ومعها سياسات لينين وتكتيكاته، إنّما هي وصفة جاهزة لعملية التغيير في كلّ البلدان وفي كلّ زمان ومكان!
هذه المقدّمة للإطلالة على أزمتين تكادان أن تصبحا متشابهتين. أعني بذلك أزمة النظام السياسي في لبنان، وكذلك أزمة العمل الثوري والتغييري فيه.
لا شكّ بأنّ النظام السياسي الطائفي ــــ المذهبي اللبناني، قد دخل مرحلة «الأزمة الشاملة». ليس البرهان على ذلك آنيًّا فحسب. أي ليس من خلال العجز المستمر، منذ ثلاثة أشهر ويزيد، عن تأليف حكومة يحتّم تأليفها الدستور، بعد الانتخابات النيابية في السابع من حزيران الماضي. البرهان قائم ومتراكم منذ الاستقلال إلى اليوم. ففي فترة وجيزة (نسبيًّا) تزيد قليلاً عن ستة عقود من الزمن، حصلت نزاعات وتوترات وصراعات وانقسامات عدّة، وعانى اللبنانيون من حروب أهلية متكرّرة دامت إحداها خمس عشرة سنة بالتمام والكمال!
إنّ ما يعانيه لبنان واللبنانيون من عدم استقرار، ومن تفكّك وانقسامات، ومن تدخلات خارجية في شؤونهم الداخلية (اتّخذت طابع وصايات مديدة)، وكذلك من أزمات اقتصادية وهجرة وبطالة... إلى هشاشة دولتهم ومؤسّساتها، إلى النيل من سيادتهم ووحدتهم... إنّ كلّ ذلك هو حلقات في سلسلة متصلة بعجز نظامهم السياسي عن تلبية الحدّ الأدنى من إدارة علاقات في ما بينهم ومع الخارج، من شأنها أن توطّد أسس الوطن وتمتّن وحدته، وتعزّز أمنه واستقراره وسيادته...
بناء تجمّع إنقاذي يضمّ كلّ المتضرّرين من النظام وكلّ المدركين لضرورة التخلّص منه
من أشكال التفكّك والوهن نشوء دويلات طائفية ــــ مذهبية، داخل الدولة اللبنانية وعلى حساب وحدتها وعافيتها وحتى سيادتها. وهذا في الواقع، ما يجعل الأزمة تأخذ شكل الانقسام الداخلي الذي يجد متنفّسه في حروب أهلية مديدة ودامية ومدمّرة على النحو الذي حصل في السابق تكراراً، والذي يمكن أن يحصل عندما تنعقد الأزمات الداخلية اللبنانية على الأزمات الإقليمية وحتى الدولية.
يسهل من هذا الشكل لـ«تصريف» الأزمات ولمفاقمتها في الوقت عينه، عدم تبلور وجهوزية قوة داخلية، سياسية ــــ شعبية، قادرة في اللحظة الثورية المناسبة (حسب لينين)، على أن تستثمر بلوغ الأزمة ذروة ما، في مرحلة ما، من أجل تقديم بديل يغيّر في مجمل المعادلة، أي يغيّر في جوهر النظام السياسي الطائفي ــــ المذهبي ــــ الاقتصادي ــــ الاجتماعي... اللبناني.
إنّ هذا الانقسام الذي يستبعد معه أيضاً كلّ إمكانية حلّ داخلية (انقلاب عسكري، حسم الصراع الأهلي لمصلحة قوة دون سواها...)، يستدرج، بالضرورة، التدخلات الخارجية، التي ستأخذ في مراحل الاستعصاء بالتأكيد، شكل الوصايات المباشرة السياسية، أو الأمنية، أو الاثنين معاً.
إنّ «القوة القادرة» (Force majeure) التي توفّر إمكانية نشوء سلطة في بلد ما، غير متوافرة في النظام السياسي اللبناني الراهن: فإما الانقسام والحروب والتوترات المديدة، وإما الوصاية الخارجية التي تحمل معها القدرة والقوة الضروريتين على حسم الأمور، عندما تحصل الأزمات وتتعطّل المؤسسات اللبنانية.
من هنا نطلّ أيضاً على العنوان الثاني للأزمة اللبنانية. وهذا العنوان يشير إلى غياب البديل السياسي الداخلي، الثوري (بمقاييس عامة أو خاصة) والإنقاذي بكلّ المقاييس. ولنبدأ بأنّ قوى المحاصصة على اختلاف مواقعها وتباين توجّهاتها السياسية، لا تملك حلاً «داخليًّا» للأزمة اللبنانية، لأنّها، هي بالضبط، في تبنّيها للنظام القائم وفي تغذية بقائه، وفي رفض إصلاحه على الأقل، وفي ارتهانها للخارج، توفّر استمرارية الأزمة واستمرارية تفاقمها واستعصائها في آن واحد. يحصل ذلك أيضاً في مناخات في المنطقة، دفع معها الغزو الأميركي للعراق، عملية التعبئة والانقسام الطائفيين والمذهبيين إلى الذروة.
وأزمة القوى الثورية متعدّدة الجوانب. إنّها تواجه نجاحاً غير مسبوق للقوى التي تستخدم التعبئة المذهبية والطائفية إلى درجة الاستحواذ (أو التأثير) على أكثر من نسبة 80% من اللبنانيين. يجري ذلك وسط تشوّه متعاظم للمفاهيم والقيم والعلاقات، وخصوصاً مع الخارج. وكذلك عبر تمويل المناسبات السياسية (والانتخابية خصوصاً) وتحويلها إلى حروب تخوضها دول كبيرة بكلّ إمكاناتها وميزانياتها ونفطها وعصبياتها...
أما الجانب الثاني من أزمة قوى البديل الثوري، فيكمن في عدم قدرة هذه القوى على التوحّد وراء برنامج إنقاذي بسيط وواضح ومن أجله: إنقاذ الشعب اللبناني من الانقسام والنظام الطائفيين والمذهبيين... والتفاهم أيضاً على الحدّ الأدنى من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية... يشترط ذلك العمل في اتجاهين لا يتناقضان.
الأوّل: السعي لبناء تجمّع وطني إنقاذي واسع يضمّ كلّ المتضرّرين من النظام وكلّ المدركين لضرره ولضرورة التخلّص منه. والثاني هو السعي لتجديد المشروع اليساري خياراً ثورياً استراتيجياً يمثّل في آن معاً، تمكيناً لليسار من النهوض، وضمانة لكي يسير التجمّع الوطني الإنقاذي الواسع، في الاتجاه الصحيح، على المستويين السياسي والتنظيمي.
نتناول هذه العناوين العامة الآن أيضاً، في مناسبة الذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني.
يجب ألا تمرّ هذه الذكرى دون بداية تناول معمّق لدور الحزب الشيوعي ووظيفته في المساهمة في معالجة الأزمة الوطنية الكبرى التي يتخبّط فيها لبنان واللبنانيون. لا أهمية لتناول أزمة الحزب الشيوعي، أو صمود الحزب الشيوعي، إلا ارتباطاً بذلك: أي دور الحزب الشيوعي في المساهمة في تقديم الحلول الإنقاذية للبنان واللبنانيين. كلّ كلام خارج هذا الموضوع، يصبح كلاماً خارج الأولويات الوطنية والقومية. إنها مسألة إعادة ترتيب أولويات وصياغة برنامج لمواجهة مخاطر وتحديات وطنية وقومية، في مهمّة ثورية لن يكون لها من ترجمة رغم صحة التوجّهات، إلا إذا ارتكزت أساساً، على بناء نسبة قوى تجعل فعل التغيير عملية واقعية معيشة، لا أمنية أو أغنية أو شعاراً فحسب!
* كاتب وسياسي لبناني