تحتفل مؤسسة الأمل للمعوقين، اليوم، بيوبيلها الذهبي. ثمة ما يميّز هذا الاحتفال، فاليوم بالذات ستجتمع المؤسِّسة منيرة الصلح التي تبلغ من العمر 98 عاماً مع أطفالها الـ45 على مائدة عشاء واحدة بعد 6 سنوات من الانقطاع
راجانا حمية
13 تموز عام 2002. تقاعدت منيرة الصلح من الحياة الصاخبة. اختارت الركون إلى الصمت بإرادتها بعدما فقدت سبب الاستمرار في نضال استمر 60 عاماً مع ذوي الاحتياجات الخاصة: ابنها سليم.
صباح اليوم الذي توفي فيه سليم، اتخذت الصلح قرارها بالصوم عن كل شيء: الكلام. العمل في مؤسستها التي أنشأتها لخدمة المعوقين. الخروج من بيتها في برمانا حيث كانت تعيش مع سليم ومن يشبهونه. صامت عن الحياة، وفي اليوم الذي أعلنت فيه قرارها، قالت لابنتها سناء: «تعبت. سامحوني. ما بقى بدي إعمل شي. بدي ارتاح». وأوصتها بألا تغير «مسكة الباب، خلي من دون قفل، مين ما بدو يفوت وما تقفلي إلا بس تناموا».
كانت تبيع الأراضي التي تملكها عائلتها لتصرف على الأولاد
منذ ذلك الوقت، «راحت»، تقول سناء. باتت الكلمات التي تقولها معدودة. تذبل يوماً بعد آخر.
ذبُلت هي الأخرى. لم تعد قادرة حتى على الحراك.
ذهبنا إليها في برمانا، حيث تقطن منذ اغتيال زوجها وحيد الصلح 1958، يحدونا الأمل بسماع صوتها. أكثر من ذلك، أخذنا الأمل إلى الظن بأن الأم التسعينية قد تستقبلنا عند الباب. خاب الظن. استقبلنا كل من في البيت، إلا هي. كانت نائمة في مكانها المعتاد: على الكنبة.
على الكنبة التي تقابلها، كانت تجلس امرأة أخرى تشبهها في كل شيء. في عينيها الصغيرتين المغمضتين. في الجسد النحيل. في غفوتها. هي سلمى، «الشقيقة الصغرى لمنيرة». لن تستفيقا إلا بعد جلسة «صراخ». تقترب سناء من والدتها. تفرك لها أصابع يديها النحيلة. تكلمها كما الأطفال «منورة. حبيبي. روحي». تفتح «منورة» عينيها. طيف ابتسامة يرتسم على ثغرها، ثم تعود لغفوتها. لا يسعفها النعاس في التحدث إلى ابنتها.
لن نسمع صوتها، إذاً. لسانها اعتاد الصمت، وربما لو أنها أرادت الكلام لأعاقتها عنه سنواتها الـ98. ستتكفل ابنتها سناء وحفيدتها نايلة بسرد حياتها والتذكير ببعض المحطات التي لا يعرفها سوى المقربين منها.
سنة 1918. من هنا تبدأ قصة منيرة الصلح. الطفلة المشاكسة التي وُلدت في كنف عائلة سياسية محافظة. كانت ترفض كل ما لا يتناسب مع رأيها، ففي صغرها كانت تواجه والدتها عندما تدعوها للجلوس مع الفتيات، وتلعب مع الفتيان. تتذكر سناء حديث والدتها عن «النزلة مع الصبيان على المزراب من الطبقة الثانية». في حينها، كانت العائلة لا تزال تقطن بيتها الأول في طرابلس. كانوا 9 أطفال في البيت برزت بينهم منيرة ولو باللعب. كبُرت الطفلة ولا تزال على حالها «مشاكسة. مغامرة. كانت تعمل اللي بدها ياه حتى لو ما حدا موافق». في عام 1929، تخرجت من المدرسة الأميركية. ولأنها «ما بتعمل إلا اللي براسها»، أجبرت والدها على الانصياع لقرارها: الدخول إلى الجامعة اللبنانية الأميركية، التي كانت في حينها تسمى «أميركان جونيور كولدج» للفتيات. كانت من أول جيل تعلم في الجامعة «بالوقت اللي كان قليل عدد الجامعيات بالعالم العربي». لا تزال شهادتها معلقة على حائط الصالون في بيتها. يشبه لونها لون الصور الكثيرة التي تقابلها. قديمة بقدم السنوات التي مرت عليها. لكن، رغم ذلك، لا تزال هذه الشهادة محط اهتمام الكثيرين، ولا سيما الجامعة التي تستعين بها كلما أرادت تسليط الضوء على تاريخها.
بعد التخرج، حزمت منيرة حقيبتها إلى بغداد، وتطوعت في تعليم اللغة الإنكليزية في إحدى المدارس هناك. عادت عام 1935 إلى لبنان لتكمل «اللي براسها»، وترحل «خطيفة مع ابن عمها وحيد الصلح إلى فلسطين، بعدما رفضت العائلة تزويجهما لأن بيها كان يعتبر وحيد شاب طايش». بقيت في فلسطين أشهراً قليلة لتعود بعدها «لإجراء الصلحة مع أهلها». عام 1942، انقلبت حياة منيرة الصلح رأساً على عقب. زاد العناد والإصرار، لكن خفت الحماسة للحياة، بعد ولادة ابنها سليم بإعاقة عقلية. دفعتها المعاناة مع سليم إلى تكريس حياتها للعمل مع المعوقين. قبل أن تفكر في تأسيس «الأمل للمعوقين»، عملت الصلح جاهدة لتعلم كيفية التعاطي مع سليم، فغافلت زوجها والتحقت بدورة تدريبية في الصليب الأحمر. عرف زوجها بالتحاقها «وقت عزمتو على التخرج».
لم تسترح الصلح من المعاناة، فبعد «نكسة» سليم، أتى اغتيال زوجها عام 1958. تقول سميرة إنه «اغتيل بعدما عجزوا عن اغتيال عمه سامي الصلح اللي كان وقتها رئيس وزارة». سنة الـ58، كان البلد منقسماً بين «ناصريين وناس بدهن لبنان بس وعنده علاقات عربية، عائلتي كانت مع اللي بدهن لبنان، لهالسبب عانوا كتير». ترفض الابنة الحديث عن ذلك الوقت «نزولاً عند رغبة أمي لأن عرفت اللي قتلو زوجها بس هددوها فينا إذا كملت». تكمل سميرة «متل حال الاغتيالات عنا، كل واحد بيعرف مين قتلّو قريبو بس ما بيحكي».
تجمع عائلة الصلح يوميات منيرة في كتاب لنشرها تكريماً لها
اغتيل وحيد. تركت الصلح بيروت نهائياً، وعادت إلى بيت العائلة في برمانا. هناك، أنشأت صفوفاً لابنها سليم ولمن يشبهونه. باتوا 10 أطفال، فعملت جاهدة على تأسيس بيت لهم عام 1959، فكانت أول مؤسسة تعنى بالمتخلفين عقلياً في العالم العربي. وكانت الصلح أول من أدخل الصحة العقلية في الإنعاش الاجتماعي عام 1960. ولأجل أطفالها الذين باتوا 45 الآن، ترشحت 3 مرات للانتخابات النيابية.
نالت ترخيصاً لمؤسستها عام 1961. في حينها، لم تكن الدولة تعطي للمؤسسة شيئاً، فكانت الصلح تبيع الأراضي التي تملكها العائلة «لتصرف على الأولاد». بعد سنوات عدة، كبر العدد. فعملت الدولة على مساعدتها «بشي بسيط، 20% من كلفة الطفل». أما الباقي؟ فكانت تجمعه من عائدات الفرن الذي يشغله الأطفال. كما أنشأت محلاً للنجارة واستثمرت أراضي أهلها في أرنون التي يزرعها معوقون وبيع منتجاتها ضمن مشروع «سنبلة الخير». يضاف إلى ذلك، مشروع «كنزة الشتاء» التي تستفيد منها 69 مؤسسة خيرية.
بقيت تعمل حتى في كبرها. كانت في السبعين من عمرها حين كانت تقطع خطوط التماس لاستكمال ملفات «أطفالها». وفي عمر الـ89، اختيرت «أفضل أم معوق»، ونالت جائزة روز فيتزجيرالد كينيدي. وكانت تعمد في كل مرة تُكرم فيها إلى ارتداء الزي اللبناني لتعريف «الغرباء إلى تاريخنا». شاركت في الكثير من المؤتمرات الدولية، وعندما تعود منها كانت تعمل على ترجمة مقررات المؤتمرات إلى العربية وتوزعها على المؤسسات.
اليوم، لم يبق إلا منيرة «النائمة دائماً» وكتاب المذكرات الذي ستعمل العائلة على نشره في وقت لاحق تكريماً لها.


جوائز وأوسمة

نالت منيرة الصلح جوائز وأوسمة لبنانية ودولية. فإضافة إلى جائزة فيتزجيرالد كينيدي، منحها رئيس الجمهورية وسام الأرز الوطني ووسام الاستحقاق الصحي. كما منحتها جامعة هايكازيان جائزة أمهات لبنان ومؤسسة الحريري جائزة المرأة العربية. أما دولياً، فقد منحتها المنظمة الدولية لإعادة التأهيل شهادة تميز للخدمة التي أدتها للأشخاص المعوقين.