نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

بالإذن من مظفّر النوّاب، الذي قال قصيدته هذه منذ ما يقرب من أربعين عاماً. وهي قصيدة مليئة بالشتائم، ممّا لا يُستساغ. ولكن، بعد كل تلك السنوات، يبدو أنه لم يبقَ سوى الشتائم لتوصيف الحالة. أو تلك “يا وحدنا”، التي أطلقها أبو عمار أثناء حصار جحافل الجيش الإسرائيلي لبيروت عام 1982. كلها مرجعيات قديمة، فكأن الزمن الجديد لم يعد يلائم هذه المواقف/ العواطف. بات زمن محمد دحلان، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وفق آخر انتخابات، والمرشح الأوفر حظاً للتوريث، الذي تأخّر، بينما يتولّى أبو مازن فترة انتقالية ستكون قصيرة بحكم العديد من المؤشرات.
وهذا أقدم على إصدار مرسوم الانتخابات “في موعدها”، حرصاً على “تطبيق الدستور”، بينما هي في الواقع قفزة في المجهول، يمكن الأكثر تفاؤلاً اعتبارها مجرد رفع لسقف الضغط على حماس لدفعها إلى توقيع “اتفاق المصالحة الوطنية” بدون تدقيق في “التعديلات” التي أجرتها مصر على الوثيقة الأصلية، بحجة أنها تعديلات “شكلية” بينما ما هو شكليّ في الحقيقة هو التوقيع نفسه، حيث لا مصالحة بدون أساس لها، وهو ما لم يتوافر بعد، وبقيت هذه المسألة الخطيرة، بل الوجودية، موضع تلاعب تكتيكي، أو قل مهاترات عقيمة.
وقبل الاسترسال، أرجو من القرّاء الانتباه إلى كمية المزدوجات التي بات يتعين على من يريد إيصال فكرته إلى الناس اعتمادها. وتشير هذه الكثرة إلى اضطراب في معاني المفردات، وإلى احتوائها على معنى ظاهري ومعانٍ عديدة مضمرة، واستدراكات، بل وعلى قدر من التحوير، الجادّ أحياناً والساخر في أغلب الأحيان. ها هي اللغة، حتى اللغة، تكشف عن مبلغ تفخّخها، وتنفجر بين أيدينا.
الأقل تفاؤلاً يرى أن إصدار المرسوم يهدف إلى تأبيد الانقسام، وقطع الطريق على تسوية بين السلطة/ فتح وحماس، بحيث تستمر وضعية، باتت اليوم جليّة الملامح، في السير حثيثاً نحو نهاياتها المتوقّعة:
1- الضفة الغربية بيد السلطة/ فتح التي تقيم فيها حكماً توسطياً بين الاحتلال والسكان الفلسطينيين، على قاعدة البندوستانات، وعلى أساس الإدارة الذاتية المتأسّسة على تصوّر يسميه السيد سلام فياض “دولة فلسطينية خلال سنتين”، بينما يسميه نتنياهو “تسهيل الشروط الاقتصادية لحياة الفلسطينيين”.
2- غزة إلى الجحيم، ذاك اليومي المتكوّن من الحصار المحكم وكل أنواع الحرمانات والاستحالات، والآخر الوارد كل يوم، والمتمثّل في “رصاص مسكوب” آخر ستأتي حتماً فرصه.
3- والقدس ـــــ عروس عروبتكم تلك ـــــ بيد المستوطنين، وهم باتوا مئتي ألف داخل المدينة القديمة، وفي ما يعدّ القسم العربي منها، وهناك ألف منزل جديد للفلسطينيّين مبرمج هدمها في الأسابيع القادمة، بينما سينهار في أي وقت المسجد الأقصى بقبّته الذهبية، رمز القدس وفلسطين... رمز إلى حدّ أن عدة ملصقات للوكالة اليهودية نفسها (KKL) ـــــ أداة الصهيونية الأبرز قبل إعلان دولة إسرائيل عام 1948 ـــــ كانت تقول: “زوروا فلسطين”، وتضع السور والقبّة كخلفية للدعوة. الملصقات تلك أُنتجت عام 1936، أي قبل المرحلة الثانية من الدعوة الصهيونية، ووداعتها البريئة ليست إلّا ظاهرية، إذ كانت وسيلة جذب مهاجرين يهود، من أوروبا خصوصاً، إلى الأرض التي سيجري نزع ملكيتها واستعمارها. رويداً في البداية، ثم بتسارع متزايد العنف ومغرق في الدماء، حتى اليوم.
منذ يومين، الأحد الفائت، وللمرة كذا، حاول المستوطنون دخول الحرم القدسي. تصدّى لهم من كان من الفلسطينيين مرابطاً هناك. بالكراسي وبالأسنان. يا وحدنا!! ثم تدخّلت الشرطة الإسرائيلية لـ“فضّ النزاع”، كما تقول كبريات وكالات الأنباء العالمية. ألم نقل لكم إن اللغة تفخّخت؟! وبعدها بدأت تلك الوكالات والصحف والتلفزات والإذاعات، جميعها، تسترسل في الريبورتاجات المشوّقة والغرائبية، وتتكلم عن قدسية المكان... لليهود كما للمسلمين. المعركة تخص السماء إذن. كما لو أن إسرائيل لا تخنق المقدسيّين وتطردهم بالقوة وتصادر بيوتهم وتسحب منهم أوراق إقامتهم. كما لو كان يمكن الفصل بين الظاهرتين. والفصل هو، بالدقة والتحديد، استراتيجيا إسرائيل بشأن القدس. والفصل والعزل بين المسائل هما على كل حال، وأينما كان، استراتيجيا القوى المهيمنة لحماية هيمنتها.
ووقوعاً في هذا المنطق/ الفخّ، استنكرت الجامعة العربية أحداث المسجد الأقصى، واستنكرت أكثر منظمة المؤتمر الإسلامي. متى يمكن طلب انعقاد جلسة طارئة لمجلس الأمن لنقاش مجمل ما يجري في القدس؟ هل ينبغي أن يتابع ذلك السيد حاتم عبد القادر، الفتحاوي، مسؤول ملف القدس، المعتقل بهذه المناسبة؟ ماذا يفعل أبو مازن إذاً؟؟ لماذا لا يقلب الأرض ليشتري نفسه بعد فضيحة غولدستون، معتدّاً بالقانون الدولي الراسخ، بقرارَي مجلس الأمن 476 و478 لعام 1980، اللذين عدّا إعلان القدس عاصمة لإسرائيل ملغى وبلا قيمة. أم أن هذا أيضاً تاريخ قديم، كسائر الإحالات في المقال؟
معركة القدس مرتكز أساسي لإبقاء الصراع حيّاً، بغضّ النظر عن “العروبة” التي لم تعد ذات مفعول بديهي (هل كانت يوماً؟). وهي بحكم طبيعتها الكولونيالية شديدة التطرف، وبسبب حمولتها الرمزية والانفعالية، وعلاقتها بالقانون الدولي، تهمّ العالم بأسره. فما هي بالملموس وبالدقة، استراتيجيا القوى المختلفة، بدءاً من فتح وحماس، وصولاً إلى هؤلاء المستنكرين. فلعله، على أساس هذه الاستراتيجيا، يمكن بلورة توافق وطني فلسطيني، يرتكز على الأرض وليس معلقاً في ...الهواء.