ناهض حتر* ما زلت أريد تقديم طلب انتساب، أو للدقة، تجديد بطاقة انتساب، إلى الحزب الشيوعي اللبناني. فلهذا الحزب في (ورغم) عيده الـ85، من الميزات ما يجعل المرء ينظر إليه كخيار مستقبلي. إنه الحزب الشيوعي العربي الوحيد الذي ما برحت الدماء تتحرك في قلبه، ولم يخسر بعد إمكاناته النضالية. والحزب، حين يكون متوافراً على تلك الإمكانات، لا يشيخ، بل يغدو، سنة وراء أخرى، سياقاً للتواصل الديناميكي بين رؤى وأجيال من المناضلين.
للحزب الشيوعي، بحد ذاته أي بوجوده، سلطته المتكوّنة في سياقات غير سلطوية. وهو يشيخ فقط إذا فقد القدرة على امتشاق سلاح النقد، وهو ما يستلزم حكماً عدم التواني عن نقد السلاح، موجّهاً إلى الذات والحلفاء قبل الخصوم والأعداء. وعندما يتكلّم الشيوعي أو يصرّح أو يكتب، فإن عليه أن يكافئ التوقع بأنه سيشنّ نقداً، وبأسلحة جديدة مفاجئة، ومن زوايا جديدة غير مرئية. بذلك، يستعيد الشيوعي مكانته ودوره وسياقات سلطته التي تمنح مناضلاً شاباً فعالية ليست لمئة نائب ووزير في نظام سياسي محكوم مسبقاً بانعدام فرص التغيير من داخله.
لا يستطيع الحزب الشيوعي في الواقع اللبناني الخاص أن يفكّر في السلطة السياسية أو يخطط لها. فالمشاركة في تلك السلطة ــــ وهي غير ممكنة إلا بالالتحاق بشروط النظام ــــ تقضي على معنى وجوده كله، بينما قلب النظام في لبنان لا يتوقف على الإرادة والقوة. فحزب الله، بجبروته، خرج عام 2006 من انتصار له دلالات إقليمية ودولية على إسرائيل، إلى مماحكة محلية حول الثلث الضامن في حكومة مع أعدائه. وهو لم يكن ليجرؤ حتى على تلك المماحكة لولا تحالفه مع تسونامي التيار الوطني الحر. ففي النهاية، لا يتعدى حزب الله ومقاومته، والتيار وإصلاحيته، حدود تمثيل الشيعة والمسيحيين في نظام طائفي متجذّر. فماذا كان يريد الحزب الشيوعي أن يصنع بمقعد نيابي ما كان ممكناً أن يحصل عليه إلا بتراكم ولائه لقوى «المعارضة» الرئيسية، تماماً كما حصل شيوعي مرتد على ذلك المقعد بتراكم ولائه لقوى الموالاة.
الخط الضروري للبنان، والمفتوح بالتالي أمام الشيوعيين اللبنانيين، ليس الخط الثالث بين فريقين ينتميان إلى النظام الكومبرادوري نفسه، نظام الوكالات التجارية والمالية والسياسية والثقافية، والمستند إلى صيغ مختلفة، ولكن متماثلة في النهاية، للعصبيات الطائفية والمذهبية. ولذلك، فإنني أرى في الخلاف الداخلي بشأن الموقف من حزب الله، سجالاً بلا معنى، وفي التهليل لعودة وليد جنبلاط إلى الحلف الرباعي، امتهاناً للذات.
الحزب الوحيد، من الأحزاب المشاركة في النظام اللبناني، الذي يعني للحزب الشيوعي شيئاً لا بد من بلورته بالحوار، هو الحزب السوري القومي الاجتماعي. أولاً، بسبب تراثه التمردي، وثانياً، بسبب كونه لا يزال داخل النظام وخارجه، وثالثاً، بسبب علمانيته، ورابعاً، بسبب ارتباطه العقائدي والسياسي بسوريا، فسوريا هي الأفق الوحيد الممكن للقوى الشعبية التقدمية في لبنان.
ويمكن التأسيس مع السوريين القوميين وقوى شبابية ونسائية وبيئية ومثقفين ونشطاء، لإقامة جبهة علمانية راديكالية يحتاجها الشعب اللبناني كحاجته إلى هواء نظيف وبيئة نظيفة. جبهة علمانية صِدامية لا تتوانى عن شن المعارك وراء عناوين علمانية صريحة لا تسمح فقط برفض الطائفية والمذهبية وشروطهما، ولكن برفض الأطروحة الدينية وشروطها أصلاً. في هذا الميدان فقط يمكن التأسيس للبنان الجديد، وقيام مجموعة اجتماعية ثقافية يمكنها القول إنها تمثّل لبنان، لا هذه الطائفة أو تلك.
وثروة لبنان ومعناه يكمنان، قبل كل شيء، في التراث التنويري الثقافي لجبل لبنان منذ القرن التاسع عشر. وأعتقد أن الحزب الشيوعي هو الوريث الممكن لهذا التراث المهم، لبنانياً وعربياً وإنسانياً. ولعلها مهمة سياسية راهنة وضاغطة أن يعود الحزب لاستلهام ذلك التراث ونقده ودرسه ونشره واجتذاب الأجيال الجديدة إلى فضاءاته الرحبة.
لبنان بلد جميل للغاية. وهذا ليس تفصيلاً، بل هو جزء من شخصية البلد الوطنية وهويته. وبسبب الحرب الأهلية، التي ينبغي إدانتها بلا التباس، والعدوان الإسرائيلي ونشاطات الكمبرادور العقاري وانعدام كفاءة الإدارة وغياب الدولة وترييف المدن، يغرق لبنان في كارثة بيئية مضاعفة تهدد وجوده كحيز طبيعي وجمالي وحضاري. وهو ما يجعل النضال البيئي في لبنان مهمة وطنية بامتياز. وهذا ميدان رحب لنشاط الحزب الشيوعي وقيادته وسلطته.
على أن النضال الاجتماعي يظل الميدان الرئيسي للحزب الشيوعي وعنوان نضاله وحضوره وهويته. ويحرّك الشيوعيون اللبنانيون، بين حين وآخر، نضالات اجتماعية، إلا أن المراقب يستطيع أن يلاحظ أن الحزب لم يحسم بهذا الاتجاه نحو شن حملة وطنية للدفاع عن مصالح الفئات الشعبية، حملة تتمحور عليها طاقات الحزب وهيئاته وكادراته وجمهوره وتحالفاته، حملة اجتماعية لا تفرّق بين قوى الكمبرادور والاستغلال والفساد، موالية ومعارضة، متأمركة أو مقاومة.
يتمثّل المزيد والمزيد من اللبنانيين أن لبنانيتهم «مهنة لا هوية». وهو اتجاه معاكس لحضور الشيوعيين ونموّهم وفعاليتهم، الذين لا مكان لهم وسط قيم الشطارة والتربّح والفردية وتضخّم الذات والانتهازية ومجافاة الحس السليم والخلاق إلخ. ولذلك، فإن حرب الحزب الشيوعي تحدث، قبل كل شيء، في ميدان القيم، دفاعاً عن الالتزام الأخلاقي الذاتي والنزاهة والصدقية والإنتاجية والكفاءة والإنسانية والنضال الجماعي من أجل العيش الكريم، وتأكيد أولوية الروحي والمعنوي والجمالي والمناقبي في حياة الإنسان. ولا يمكن كسب هذه المعركة الثقافية الكبرى من دون تقديم نماذج أخلاقية رفيعة تسعى على قدمين.
لقد خسر الشيوعيون عامة معركة يملكون فيها السلاح الأمضى، وهو سلاح نقد الملكية الخاصة والتراكم الرأسمالي، وبالتالي نقد الأخلاق الرأسمالية بكل تجلياتها، بسبب الخلط بين المادية الفلسفية التي تناضل من أجل تفسير العالم وتغييره، والمادية العامية التي تدفع بالمرء إلى الغرائزية في كل أشكالها (تملّك الأشياء والناس، وخصوصاً النساء، والتسلّط الإقطاعي والنجاح البورجوازي غير الممكن واقعياً سوى بالوطء على الآخرين وعلى المبادئ).
للشيوعية منظومة أخلاقية واقعية مستمدة من إنكار الملكية الخاصة والاستئثار والامتيازات والسلطة. وهذه هي المنظومة الوحيدة في العصر الراهن التي من شأنها أن تعمّم الصوفية الإيجابية الإنسانية جماهيرياً. وبينما تركّز أخلاقيات الأديان على الشؤون المتعلقة بجسد المرأة وتنظيم الغريزة الجنسية والعمل الخيري والمناقبية في ظل النظام التجاري نفسه، فإنها تزكّي التجارة وتراكم الثروة وتشرّع الطبقية، وتفتح، بالتالي، كل الدروب الممكنة لانعدام الحس الأخلاقي الإنساني. الشيوعية هي مناط الأمل الأخلاقي للبشر الراغبين بالتحرر الذاتي والترقي الإنساني. وما يبقى هو أن يتمثّل الشيوعيون ذلك، ويجسّدوا ويمنحوا الأمل للأجيال الجديدة.
وأسوأ ما لحق بالشيوعية كنهج أخلاقي هو التفسير المبتذل للميكيافيلية اللينينية. لقد كان لينين ميكيافيلياً حتى العظم في نهجه السياسي، معتبراً أن مصلحة الحزب والثورة هما المعيار الأخلاقي الأساسي، مطوّراً ميكيافيلي الذي اعتبر أن مصلحة الدولة هي المعيار. ولكن ميكيافيلي ولينين لم يريا أن الغاية تبرّر الوسيلة بالنسبة للفرد، عضو الدولة أو عضو الحزب. والمشكلة هي أن الكلي، في الممارسة الواقعية، يتجسد في الخاص، والجمعي في الفردي. وبهذا التسلسل، علينا الاعتراف بأن لينين هو الذي أطلق هذا الفيروس اللاأخلاقي الذي دمّر الحركة على أيدي الستالينية التي تبنت ميكيافيلية مفرطة على المستويين الجماعي والفردي معاً، وأدت إلى تحطيم المرجعية الأخلاقية لدى مجتمعات المنظومة الاشتراكية، ما أدى إلى انهيارها من دون مقاومة، ولدى الأجهزة الستالينية في الأحزاب الشيوعية في العالم، وهي التي اعتبرت الميكيافيلية عقيدتها الفعلية الوحيدة.
وفي مذهبي أنه آن للشيوعيين التحرر كلياً من الميكيافيلية، ورفضها لا على المستوى الفردي فقط، بل على المستوى الحزبي والعام. الغاية لا تبرر الوسيلة، فمعنى الشيوعية في الحاضر هو وسائلها. والتشدد الأخلاقي في وسائل الحزب الشيوعي لا يفيد فقط في تقديم النموذج للإنسان الجديد، بل يفيد أيضاً في تلافي الأخطاء السياسية (ومنها بالنسبة للحزب الشيوعي اللبناني مثلاً، التحالف مع فتح، ومع المليشيات الطائفية والشخصيات الإقطاعية، بل إرسال مقاتلين للعمل لدى القذافي الخ).
لدى الحزب الشيوعي اللبناني أرصدة منسية، أهمها إنجازات مثقفيه الكبار من سليم خياطة إلى مهدي عامل، وقدرته على تفعيل حضور المثقفين التقدميين اللبنانيين من طراز عالمي مثل جورج قرم الذي أعده، بغض النظر عن الانتماء الحزبي، رافعة ضخمة للحزب الشيوعي لم يستخدمها حتى الآن. وفي أعمال هذا المفكر الكبير إمكانات من أجل تطوير نظرية تقدمية للبنان لم تجرِ مقاربتها للأسف.
لكن الرصيد الكبير المنسي للحزب الشيوعي اللبناني هو رصيده العربي. ففي البلدان العربية الأساسية، حظي الشيوعيون اللبنانيون بتقدير استثنائي من التقدميين في فترة السبعينيات والثمانينيات. ويعود ذلك إلى عاملين هما، أولاً الإنجازات الثقافية سواء على المستوى الفكري (حسين مروة ومهدي عامل ومحمد دكروب) أو مستوى الصحافة الثقافية والنشر (مجلة الطريق ودار الفارابي) أو المستوى الفني (زياد الرحباني ومارسيل خليفة)، وثانياً إطلاق جبهة المقاومة الوطنية ضد الغزو الإسرائيلي.

لا يستطيع الحزب الشيوعي في الواقع اللبناني الخاص أن يفكّر في السلطة السياسية أو يخطط لها

لقد تراجع دور الحزب الشيوعي اللبناني على المستوى العربي إلى حدود لبنانية ضيقة للغاية. ونسي الحزب مكانته العربية إلى حد تمّت فيه، مثلا، المغامرة بما بقي من أسماء لها حضور عربي بالتجاهل أو بالخصومة الكؤود أو بالترشيح الفاشل للانتخابات النيابية. إن موقع لبنان المركزي في الثقافة العربية، وكونه ساحة رئيسية للصراعات الإقليمية، بالإضافة إلى أنه يتوافر على هامش ديموقراطي راسخ، كل ذلك يمنح الحزب الشيوعي اللبناني، بتراثه الثقافي والنضالي، فرصة ثمينة للقيام بمهمة عربية جليلة هي إقامة مركز حيوي لليسار العربي يرعى سجالاته ويساعده على تنظيم صفوفه. ويتطلب لعب هذا الدور الإيمان العميق بدور عربي للحزب والتوسّل الجدي له. وهو لن يفعل ذلك كعمل خيري قومي، فقوّة الحزب العربية ربما تكون الرافعة اللازمة لتحسين شروط الحضور اللبناني له. فلبنان هو، بامتياز، بلد الجدل السياسي بين الإقليمي والمحلي. ويمكننا أن نتصوّر أي خطوات سيقطعها الحزب الشيوعي اللبناني نحو استعادة مكانته العربية والمحلية معاً، من خلال مركز دراسات لليسار العربي، يوازي مركز دراسات الوحدة العربية، ومن خلال مؤتمرات منتظمة وهيئات للشيوعيين واليساريين العرب، تتجاوز الأحزاب الميتة القائمة وتركز على تنشيط الحركة
عربياً.
من بين معظم القوى اللبنانية، اتخذ الحزب الشيوعي اللبناني موقفاً صحيحاً ونضالياً من المقاومة العراقية والقضية العراقية. على أنه يمكن الحزب أن يلعب دوراً مهماً جداً في العراق من خلال تنظيم نقاش يساري حول قضية هذا البلد الجريح، ينتهي إلى مرجعية يسارية حولها، والمساهمة، على أساس هذه المرجعية، في توحيد جهود اليساريين العراقيين، وإعادة إطلاق الحركة في العراق الذي أنجب أعظم الأحزاب الشيوعية في العالم العربي.
وفي ظل الفوضى الفكرية والسياسية في الساحة الفلسطينية، فإنه بات على الحزب الشيوعي اللبناني واليسار العربي، القيام بإعادة قراءة شاملة للقضية التي دخلت مأزقها الأسوأ منذ 48، وتأسيس مرجعية فكرية ونضالية جديدة، توحّد اليسار العربي في حركة فاعلة لإنقاذ الشعب الفلسطيني ونصرته، والمساهمة الطليعية في إدارة الصراع وهزيمة الصهيونية.
النقطة الأخيرة، الأهم، أجّلتها للنهاية. وهي تتعلّق بمهمة عاجلة بقدر ما هي تاريخية بالنسبة للشيوعيين اللبنانيين، وهي ضرورة إطلاق ورشة فكرية ــــ سياسية لإنتاج نظرية شاملة عن العلاقات اللبنانية ــــ السورية، تأخر جداً إنجازها، وكلّف هذا التأخير لبنان، والمنطقة وقضاياها، نتائج كارثية، كما تدل أحداث العقود الثلاثة الأخيرة.
أخيراً، فإن لبنان والحزب الشيوعي اللبناني، بما يمثلانه ويختزنانه، يستحقان حرقة القلب والأمل.
* كاتب أردني