رونا الدبيسييوصف لبنان بأنه منبر الشرق ونافذة العالم العربي، وبلد يمتاز بتنوع فكريّ وعلميّ وثقافيّ؛ ويعدّ السبّاق بين الدول العربية في ميادين عدة. قبل فترة وجيزة، افتُتح المختبر الجنائي التابع للضابطة العدليّة، وتكلمت عليه وسائل الإعلام، ولكن هل لبنان قادرٌ فعلاً على الالتزام بمتابعة التطور العلمي الحاصل في ميدان التحقيقات؟ ألسنا في حاجة إلى تطوير هذا المختبر الجنائي؟ وأن نثبت أنّ القانون موجود لحماية المواطن؟ ماذا عن التحقيق في قضايا الاغتصاب التي غالباً ما تُطمر ولا يجري التحقيق بها أو نشرها؟ وماذا عن قضايا التحرّش الجنسي التي يخاف الناس لغاية اليوم التبليغ عنها؟ بل لنسأل ماذا عن جرائم القتل والاختطاف والانتحار؟
الأسئلة السابقة تقودنا إلى سؤال جوهري، وهو: لماذا نحتاج إلى تطوير قدرات الضابطة العدلية المخبريّة في لبنان؟
تطوّر الإنسان وتطوّرت معه القوانين، ولكن هذا التطوّر رافقته أفعال غير متوقعة وغير مستحبّة، وُجدت القوانين لحماية الأبرياء ومعاقبة الجناة وإعطاء عبرة لمن يحاول سلوك «الطرق الملتوية».
تطبيق القانون يحصل من خلال ممارسته بما يجعل المواطنين يشعرون بوجوده وبأهميته. يمكننا التشديد على ضرورة تحسين معطياتنا من خلال تحسين قدرات الضابطة العدليّة ومختبراتها، هكذا نمسي جميعاً في حماية القانون.
ثمة سؤالٌ عالقٌ منذ زمن، سؤال لم يطرح بصوت مرتفع: هل لبنان بلد لا تحدث فيه عمليات اغتصاب وتحرّش جنسيّ؟ أم هو من البلاد التي تقع فيها هذه الجرائم ولكن لا يُفصح عنها لتعيش الضحيّة الذلّ والمهانة والخوف؟
لماذا لا ترد أخبار عن جانٍ اعتقل لاتهامه بجريمة اغتصاب، وذلك بعد فحص المعتدى عليها، ثم فحص الأدلة والبراهين كالسائل المنويّ وعلامات الاعتداء باستعمال التقنيات المخبريّة التابعة للضابطة العدلية؟
في لبنان، نادراً ما نسمع عن خبراء يتمتعون بالحياديّة والجرأة اللازمة للتحقيق في قضايا التحرّشات الجنسيّة التي يتعرّض لها أطفال، أليس السبب في ذلك افتقارنا إلى المختبرات المتطورة والتقنيين المحترفين الذين يقومون بعملهم بكل جديّة واحترام؟
ماذا عن حوادث الانتحار؟ وهل يصحّ تصنيفها جميعها كعمليات انتحار؟ فحين يستحيل طرح أجوبة عن جريمة ما، ينسى القضاء أمرها، ولا يحققون فيها كما يجب لأنّ النظرة الأوليّة إلى معطيات الحادث قد تشير إلى عملية انتحار.
نتساءل: لماذا يندر أن يبلّغ شاهد ما عن أية حادثة؟ هل هذا دليل خوف أم غياب الشعور بالمسؤوليّة؟ هذا إضافة إلى أنه في حال التبليغ عن حادث أو جريمة ما، بكل جرأة وموضوعيّة، فإن الشاهد قد يُفاجأ، في كثير من الأحيان، بتغاضي المعنيين عن المذنب لأن الأخير يتمتع بعلاقات قويّة مع ذوي النفوذ في البلاد.
نسمع عن حوادث سير تقضي على أرواح ناس، يهرب مرتكبوها ويختفون عن الأنظار، وفي غياب الشهود، لا تملكُ الدولة المعطيات اللازمة للتحقيق في الحوادث ومعرفة هوية الجاني! وهنا يخطرني كم مرة سمعنا عن تطويق الشرطة مكان حادث سير بعد هروب مرتكبه، ليجمع خبراء الأدلّة الجنائيّة الأدلّة من علامات الفرامل، وعلامات الدواليب، وعلامات الاصطدام على جسم المصاب، وعيّنات الدهان المميزة التي انتقلت من السيارة إلى المصاب على أثر الاحتكاك. في هذا الإطار، أستشهد بمبدأ «لوكارد» الذي يقول «لا يمكن أن يدخل مجرم إلى ساحة الجريمة من دون أن يأخذَ شيئاً معه أو يخلّف شيئاً وراءه!» هذا المبدأ ينطبق على جميع التحقيقات التابعة للضابطة العدليّة المخبريّة والتحقيقيّة، مهما كانت الحادثة أو الجريمة التي وقعت، هنالك دائماً أدلّة وإثباتات تقودنا إلى المذنبين حتّى بعد مضيّ وقت طويل على وقوعها...
أخيراً، لا بد من الكلام على الشباب اللبنانيين الذين يختارون التخصص في مجالات التحقيق الجنائي، لكن يضطرون إلى الهجرة من البلاد لانعدام فرص العمل. ما لا يعرفه المعنيون هو أن تأمين الوظائف يجعل من لبنان أوّل دولة عربيّة تعمل على نظام قمع الفساد والجرائم بطرق محترفة وقانونيّة، ونتساءل لماذا نحتاج إلى تطوير قدرات الضابطة العدليّة المخبريّة في لبنان؟