Strong>حسين بن حمزةحين احتل الفرنسيون لبنان، ووقف الجنرال غورو ليقول إنهم باقون في لبنان ألف سنة، أدرك محمود ستيتية العائد لتوّه من إسطنبول أن كل ما طمح إليه من خلال تعلُّم اللغة التركية قد تبخَّر، وأنه إذا أراد أن يستدرك ما فاته، فعليه أن يعلّم أولاده الفرنسية. وهكذا أدخل ابنه صلاح إلى مدرسة فرنسية ذات كُلفة باهظة، بدلاً من المقاصد أو المدارس الرسمية التي دأب أغلب البيارتة على تدريس أبنائهم فيها. لم يخيِّب الابن آمال والده، فنال إجازة في الحقوق من الجامعة اليسوعية، وحظي مع السنوات بكل ما يحلم به شاعر عربي قُيِّضَ له أن يكتب بالفرنسية.
يستسيغ الشاعر الثمانيني المتأنّق بوسام جوقة الشرف الفرنسي، فكرة أنه ثأر لوالده الذي سيحضر في محطات عدة من حياته، وآخرها الاحتفال الذي أقيم لمناسبة إضافة اسمه إلى معجم «لاروس». إذْ ألقى كلمة استذكر فيها أباه الذي كان يُريه نسخة من المعجم الشهير، معرّفاً الفتى اليافع بأسماء العظماء فيه.
في «المدرسة العليا للآداب» في بيروت، التقى ستيتية بغابرييل بونور وجورج شحادة اللذين أديا دوراً جوهرياً في حياته وشعره. كان شحادة نجماً شعرياً ساطعاً، وبونور ناقداً كبيراً ذا حساسية فذَّة. اكتشف بونور موهبة ستيتية مثلما اكتشف موهبة اللبناني شحادة، والمصري إدمون جابيس، وماكس جاكوب وهنري ميشو وآخرين في فرنسا. بتوصية من بونور، حصل على منحة للدراسة في جامعة «السوربون». وبإشراف المستشرق الأشهر لوي ماسينيون، أنهى دراسته عن الروحانية الصوفية لدى الحلاج وابن عربي. «ماسينيون، مثل شحادة وبونور وآخرين، أعطاني جزءاً من شخصيتي»، يقول ستيتية. بالنسبة إليه، يولد المرء من أمه أولاً، ثم يولد عشرات المرات من «قراءة بعض الكتب، ومعرفة بعض الشخصيات، وحب بعض النساء».
الدراسة في باريس أدخلته إلى قلب الحياة الأدبية والفنية، إلى صخبها ومجلاتها ونقاشاتها ومقاهيها. حظي بصداقات شعرية نادرة مع رينيه شار وإيف بونفوا وأندريه بروتون وسيوران... لكنه أجَّل كتابة الشعر. قراءة الآخرين، وخصوصاً شحادة في البداية، جعلته يتهيّب الشعر، وراح يقول لنفسه إن عليه الوصول إلى طهارة شعرية خاصة به، وإلا فلا داعي لأن يكتب. نقطة التحول ستحدث لاحقاً حين قرأ بونفوا على مسامع ستيتية بعض قصائده، فكان أن اجتذبته النبرة القوية التي تنطوي عليها: «كانت هناك طهارة مختلفة عند بونفوا، وفهمت أن الشعر ممكن، وأن من يمتلك لغةً وعالماً وأسلوباً سيعثر على صوته الخاص ولن يحتاج إلى أحد».
عاد ستيتية إلى بيروت، وأسس الملحق الأدبي في «لوريان لوجور» (1956 ـــــ 1961)، معرِّضاً الحياة الثقافية اللبنانية والعربية لهواء النزعات والتيارات الجديدة التي تشبَّع بها في فرنسا. العمل الدبلوماسي أعاده مجدداً إلى باريس مستشاراً ثقافياً لأوروبا الغربية، ثم مندوباً للبنان لدى الأونيسكو. لكن ذلك لم يمنعه من إعادة صلاته التي لم تنقطع أصلاً، بالحياة الشعرية هناك. ثم تُوِّجت تلك الفترة بصدور ديوانه الأول عن «دار غاليمار» العريقة وحمل عنوان «الماء البارد المحفوظ» (1972). بكتابٍ شعريٍّ واحد، وضع صلاح ستيتية اسمه بين شعراء الصف الأول في فرنسا. يتذكر جلسةً جمعته بشحادة عقب صدور باكورته. قرأ له من ديوانه، فقاطعه شحادة أكثر من مرة، ليقول إنه يفضِّل كلمة أو صورة أخرى غير التي استخدمها هو، فأغلق الديوان وقال له: «انتبه. أنا أكتب ضدك الآن، ولو كان شعرك يكفيني لما كتبت»، فوافقه شحادة الرأي. الأمر نفسه حدث بالنسبة إلى أصوات الآخرين. لقد عثر الشاعر على نبرته الخاصة، ولم يبقَ له سوى المضي وحده مع كلماته واستعاراته. هكذا توالت دواوينه وترجماته وكتبه النثرية والنقدية، مصحوبةً بحفاوةٍ عالية من القراء والنقاد، ومقدَّرة بجوائز رفيعة كانت آخرها «جائزة الفرنكوفونية الكبرى»، وجائزة «بينالي الشعر الدولي».
لا يثرثر ستيتية في القصيدة. يشتغل بمعجمٍ قليل المفردات. نقرأ له فنحس بأنه يمحو أكثر مما يكتب. بالنسبة إليه، «الشعر يشبه إخراج شبكة عنكبوت من عتمتها، من دون قطع أو إفساد خيوطها الواهية». تبدأ قصيدته بكلمتين أو ثلاث. ثم ينتظر بصبر صائغي المعادن النفيسة. يحتفظ بالكلمة التالية إن كانت من صميم كلماته الأولى، ويحذفها إن كانت غريبة. «قصيدة من عشرة أسطر قد تأخذ مني ثلاثين ورقة بيضاء»، يقول لنا. السعي إلى كتابة شعرٍ صافٍ تتحرك في داخله أبديةٌ صامتة، جعله شاعراً مقلاً وغامضاً. ما يهمّه هو الوصول إلى الخلاصات والأسرار السحيقة للمعنى، كأن الغاية هي إحضار العالم إلى القصيدة، ثم كتمُ الضجة الطالعة من ارتطام عناصره. لعلَّ هذا جعل الكثيرين يشبّهون ممارسته الشعرية بشغل مالارميه. «الشعر كما أفهمه هو سرّ، والشاعر يشبه المتصوّف المقرّب من الله الذي يُشفع بعبارة «قدَّس الله سرَّه» كلما ذُكر اسمه».
رغم حضوره الشعري المرموق، ورغم أنه لم ينشر يوماً بالعربية، لا يعدّ ستيتية نفسه شاعراً فرنسياً. بل يجد نفسه أَمْيَلَ إلى وصف أدونيس له بأنه «شاعر عربي يكتب باللغة الفرنسية»، ويتذكر أن أول أطروحة أنجزت عن تجربته حملت عنوان «صلاح ستيتية وقصيدة الأرابيسك».
في المقابل، يشير صاحب «حَمَلة النار» إلى أن هذا يظل أحد التأويلات القديمة لشعره الذي انعطف أكثر من مرّة، من دون أن يتخلَّى عن فكرة أنه «يشهد في شعره على الواقع ويأخذ منه ما يسمح له بالتحليق فوق الواقع»... ويذكِّرنا بأن صنيعه هذا يشبه عبارة الشاعر الإنكليزي تشسترتون: «إذا كانت الملائكة تطير، فلأنها تأخذ الأشياء بخفّة».


5 تواريخ

1929
الولادة في بيروت

1961
عيِّن مستشاراً ثقافياً في باريس، ثم مندوباً للبنان لدى منظمة الأونيسكو، وسفيراً في بلدان عدة

1972
صدور ديوانه الأول «الماء البارد المحفوظ» عن «دار غاليمار»

1995
حاز«جائزة الفرنكوفونية الكبرى»

2009
صدر كتابه En un lieu de brûlure (دار روبير لافون) الذي وقّعه أمس ضمن فعاليات «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت»