وائل عبد الفتاحلم يكن النائب المخضرم عبد الرحيم الغول يعرف ما يدور في الكواليس. ولو كان يعرف لما اشتبك مع النائب الإخواني المطالب بإقالة وزير النقل المصري محمد المنصور. النائب الذي خدم في أحزاب السلطة، وسار في مواكب كل الرؤساء، من عبد الناصر إلى مبارك، كان من الطبيعي أن يرفع يده على من يطالب بإقالة الوزير، وخصوصاً أنه من الوزراء المدلّلين الآتين من عالم البيزنس والمليارات وليسوا مجرد موظفين تكنوقراط أو سياسيين جماهيريين أو أساتذة جامعة. الغول يدرك بحدسه السياسي، الذي لم يخب سوى مرات قليلة، أن الأيام المقبلة لهؤلاء، فكيف يجرؤ نائب معارض ويطالب بإقالة وزير ترك ملياراته ليخدم الشعب ودفع من جيبه الخاص لتطوير السكك الحديدية.
معركة الأيدي كانت ختام جلسة عنيفة في لجنة النقل في مجلس الشعب ناقشت تصادم قطار العياط. الوزير كان هدف النقاشات كلها، ولم تفلح محاولات نواب الحزب الحاكم في امتصاص الهجوم، كما لم يكن كافياً اعتراف وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، مفيد شهاب، بالمسؤولية السياسية للحكومة عن الحادث، الذي تقول الحكومة إن ضحاياه ١٨ قتيلاً، وتؤكد مصادر شعبية أن الرقم الحقيقي يتجاوز ذلك بأضعاف.
هذا ما قاله أيضاً رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، زكريا عزمي، الذي كان غاضباً إلى حدٍّ اتخذ البعض من غضبه إشارة إلى نهاية الوزير التي أُعلنت بعد أقل من يوم من الاجتماع العاصف.
عاصفة رئيس الديوان ركزت على «الرأي العام»، وهذه كلمة السر في القبول السريع لاستقالة الوزير المعروف شعبياً باسم «منصور شيفروليه»، نسبة إلى توكيل السيارات الذي تمتلكه عائلته. الوزير ماهر في البيزنس الخاص، هكذا قال نواب المعارضة، وهم يشيرون إلى اهتمامه بقطارات الأثرياء (رجال الأعمال)، مقارنة بقطارات الفقراء التي مثلت جيلاً جديداً من النعوش الجماعية الطائرة.
الوزير الحائر بين وعي القطاع الخاص وخدمة القطاع العام هو مجرد كبش فداء لامتصاص غضب الرأي العام. وهذه خطوة جديدة على نظام مبارك المعروف بالعناد والسير عكس تيار الرأي العام.
«شيفروليه» سيدخل التاريخ لأنه الوزير الأول الذي تُقبل استقالته بسبب الفشل في سياسات التطوير. استقبل عهده بكارثتين شعبيتين: قطار الصعيد الذي قُتل فيه أكثر من ٣٦٠ راكباً، وعبّارة الموت الغارقة وعلى متنها أكثر من ألف ضحية.
كوارث هزت البلاد ولم تهتز لها الحكومة، التي أعلنت مواجهة فساد العبارات وخطة تطوير السكك الحديدية، وسيلة المواصلات اليومية لأكثر من مليوني مصري.
الوزير خرج من مخمله ودافع عن الهيئة الحكومية وبثّ حملة تلفزيونية عن الوجه الجديد لقطارات الرعب. وجه حضاري دفعت فيه الدولة مليارات ليجد المواطن وسيلة مواصلات آمنة ومحترمة.
الحملات دعت المصري إلى التصدي للمخربين الذين يفسدون ويسرقون قطارات الأحلام التي لم يرها الركاب المحترفون إلا على شاشات شهر رمضان الأخير. عاصفة رئيس الديوان سألت الوزير: أين هي أموال التطوير التي اكتفيت منها بإعلانات تتهم الشعب بأنه حرامي قطارات؟
سؤال صعب ارتبك الوزير في الإجابة عنه، ولم تسعفه خبراته في الشركة الخاصة، ولا دراسته الهندسية في جامعة كارولينا الشمالية أو إدارة الأعمال في أوبرن ولا في تركيبته الأميركية الصرفة. لم يجد «شيفروليه» إلا إجابة يردّدها الوزراء من كل العهود، الاشتراكي ذي الملامح السوفياتية والانفتاحي الفوضوي ولا سيما في عصر رجال أعمال النظام: الخطأ نتيجة خطأ بشري.
لم يشرح الوزير أن شبكة الاتصالات بين القطارات المتصادمة والمحطة المركزية لم تعمل بكفاءة، ولا كيف عالج مهندسو الهيئة أخطاء الجرارات التي استوردها من «جنرال إلكتريك» ويجد السائقون صعوبة في تشغيل فراملها، كما قال مهندس خاف من ذكر اسمه في الصحف.
العاصفة على الوزير لم تكن عادية. كان المناخ مهيأً لصدمة. لن يمرّ الحادث، رغم أنه كارثة صغرى مقارنة بكوارث السنوات الأخيرة، والسبب الوحيد هو: الظرف السياسي. الحوار دائر بقوة حول مستقبل الحكم وإرادة النظام تسير بجنون إلى تحقيق الخلود (عبر استمرار الأب أو إمرار الابن)، بينما تستيقظ روح جديدة في المجتمع تُعلن رغبتها في المشاركة في اختيار المستقبل. روح تحركها عواطف لا تملك أدوات سياسية ولا مشاريع قابلة للتحقيق. لكنها تفتح كل يوم أسئلة لم يتعود النظام الإجابة عنها. أسئلة تخصّ شرعية الانتخابات المقبلة وقواعدها. وتخصّ انتماء النظام إلى النظم الحديثة القائمة على المحاسبة وتداول السلطة.
الروح الجديدة تُربك النظام وتجعله أحياناً في موقف دفاع. وهذا سرّ السرعة في قبول استقالة الوزير الذي فشلت سياساته في تطوير السكك الحديدية، وفشل معها ميل المجموعة الجديدة في الحزب الحاكم لاستبدال السياسة بالدعاية التلفزيونية والفعل بالإعلان.
التضحية بـ«شيفروليه» كانت قراراً سبق الإقالة على ما يبدو. المناخ المحيط بقصر الرئاسة كان مهيأً لاتخاذ خطوة الامتصاص، التي قد لا تكون الأخيرة. وربما وجدنا أيضاً ضحايا جدداً يضعهم الحظ العاثر أمام قاطرة الامتصاص.
وهذا ما لم يدركه الغول.