سلامة كيلة *استدعى الموقف الذي اتخذه رئيس السلطة الفلسطينية بتأجيل التصويت على تقرير غولدستون الالتفات إلى الدور الذي باتت تضطلع به السلطة الفلسطينية،. فقد خدم ما أرادته الدولة الصهيونية بتمييع الخطوات التي كان يجب أن تستتبع التقرير عبر تحويل قادة هذه الدولة إلى المحكمة الجنائية الدولية. وهو الأمر الذي لا يغير منه كثيراً عودة السلطة عن موقفها ذاك بعدما جابهت غضباً شديداً. وهو أوضح جملة ممارسات سابقة كانت تشير إلى أن الأجهزة التي تبنى تحت إشراف أميركي باتت تمارس السياسة ذاتها التي كان يمارسها الجيش الصهيوني في الضفة الغربية، أي «محاربة الإرهاب» الذي يعني محاربة كل ميل لنشاط مقاوم للاحتلال الصهيوني.
وأيضاً فرضت التفكير في الوضع الذي يحكم السلطة ويجعلها رهينة للسياسة الأمنية الصهيونية من جهة، وللدول المانحة من جهة أخرى. كما يجعل المفاوضات وسيلة ابتزاز من أجل تمرير الإرادة الصهيونية. ويمكن القول إن اتفاقات أوسلو قد أوجدت سلطة موضوعة في قفص يجعلها تتكيف مع تلك الإرادة الصهيونية، سواء من خلال الأموال التي تحصل عليها لكي تستمر، والتسهيلات الصهيونية لكي تتحرك، أو استمرار المفاوضات لكي توهم بأنه يمكن الوصول إلى «الهدف». وفي هذا السياق تكوّنت فئة منها تقوم مصلحتها على التكيف مع الاحتلال لا مقاومته، عبر النشاط الاقتصادي الذي أقامته، ومثّل شريحة كومبرادورية دخلت في شراكة مع الشركات الصهيونية، وأوجدت مصالح تفرض عليها الحصول على الرضى الصهيوني.
في هذا الوضع، تكون الدعوة إلى حل السلطة أمراً مبرراً، بل ضرورياً، لأن هذه السلطة باتت جزءاً من التكوين الذي يكرّس الاحتلال. وحيث تتحوّل قوى القمع لكي تكون بديلاً لدور الاحتلال ذاته، وتبقى السلطة كما نصت عليها اتفاقات أوسلو، أي إدارة مدنية ذاتية، رغم الأمل الذي وضع في الاتفاقات بكون هذا الوضع مرحلياً، ومنطلق وخطوة نحو «الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس»، كما يتردد في شكل «ببغاوي» من التنظيمات الفلسطينية كلها. وهو الأمل الذي لم يكن سوى وهم، حيث تركت الاتفاقات «قضايا الحل النهائي» إلى النهاية، التي لم ولن تأتي.
لكن من سيحل السلطة؟ وكيف ستحل؟
إن حل السلطة لا يمكن أن يتحقق من السلطة ذاتها، لأن كل ما أشرت إليه للتو ينفي هذه الإمكانية، ولأن للفئة الحاكمة مصلحة في استمرارها، حيث إنها مجال استمرار مصالحها. وكان يمكن المجلس التشريعي أن يقوم بهذه الخطوة، لكن حركة حماس فوّتت هذه الخطوة بعدما حصلت على أغلبية أعضاء المجلس نتيجة تمسكها بالسلطة رغم معارضتها لاتفاقات أوسلو.
تكوّنت فئة من السلطة تقوم مصلحتها على التكيف مع الاحتلال لا مقاومته
إذاً، إن كل حل للسلطة يفترض أن يصبح سياسة لقوى أخرى، وأن يكون حل السلطة جزءاً من مقاومة الاحتلال. لكن هنا سنجد أن التنظيمات الفلسطينية هي مشاركة مباشرة أو مداورة في السلطة. ولكل منها مصالحه الفئوية من استمرار وجودها. فحزب الشعب هو «عضو أصيل» فيها منذ البدء، والجبهة الديموقراطية شاركت أخيراً في الحكومة، أي بعدما وصلت السلطة إلى أرذل أوضاعها. وكثير من كادرات التنظيمات هم مفرغون في مؤسسات السلطة أو مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي تقع تحت هيمنة السلطة ذاتها. ولهذا فإن مواقف هذه التنظيمات هي «الوحدة والنقد» كما كان يشار كقانون في مرحلة التحرر الوطني. لكن التحرر الوطني قد بات خارج الاهتمام وما زال هذا القانون فاعلاً. بمعنى أن أكثر ما يصدر هو الانتقاد والشجب، لكن مع استمرار الوجود في بنى السلطة، والحرص على هذا الاستمرار. وكذلك التأكيد المستمر على ضرورة تحقيق «الوحدة الوطنية» بتجاهل كلمة وطنية هذه، لأنه يجب غض النظر عن سياسات السلطة ذاتها، التي باتت في مكان آخر.
لهذا كيف يمكن حل السلطة؟
سنلمس هنا أن موقف القطاعات الشعبية كان واضحاً منذ سنوات، وخصوصاً منذ سنة 2000، حيث كان من الممكن أن تكون انتفاضة الأقصى هي انتفاضة ضد السلطة ذاتها، التي أخذت تسمى آنئذ بـ«سلطة المافيا». وكان واضحاً دورها القمعي، وميل فئاتها إلى التشبيك الاقتصادي مع الرأسمال الصهيوني. وكان واضحاً أكثر لهذه القطاعات الشعبية أنْ ليس من دولة مستقلة، وأن السلطة هي ما تفرضه الدولة الصهيونية بديلاً من دورها فقط. وهذا الوضع عزّز من قوة حركة حماس وقتها، وبالتالي سمح لها بأن تسيطر على المجلس التشريعي في الانتخابات سنة 2006. ليست المشكلة في دعم جماهيري تحظى به السلطة، على العكس، فهي لا تحظى سوى بدعم المستفيدين وحدهم، وهم شريحة ضيقة من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأكثر من ذلك، هناك ميل شعبي مناهض لها، ويأمل حلها والتخلص من كل الويلات التي أتت بها، فمن خلال وجودها، استطاعت الدولة الصهيونية أن تمارس كل أشكال نهب الأرض والخنق الاقتصادي، وحصار المدن والقرى، وإقامة جدار العزل. وهو ما أفضى إلى انهيار واسع في وضع قطاعات شعبية كبيرة.
في هذا الوضع، تكون مسألة الصراع مع السلطة (كونها جزءاً من الاحتلال) ممكنة، حيث هناك قاعدة شعبية يمكن أن تنطلق من ذلك. وأكثر من ذلك، فإن هذه القاعدة هي التي أحست أولاً بوطأة السلطة وخطر سياساتها. لكن من يفعل ذلك؟ فما زالت شعارات الحوار الوطني والوحدة الوطنية، والتوافق، هي الرائجة عند كل الأطراف، وحوار القاهرة يشمل الكل دون تردد أو تشكك، أو حتى سؤال عن جدواه.
حماس التي حسمت وضع غزة خسرت الضفة الغربية، وهي تدخل في حوار مع السلطة على أمل الحصول على اعتراف بأنها ممثل للشعب الفلسطيني، على الأقل مثلها مثل السلطة، وهي لم تعد تمتلك بديلاً، وترى أن الضرورة تفرض أن تتفاهم، رغم كل الاتهامات التي تطلقها ضد السلطة. لهذا، فإن المسلك حيال تقرير غولدستون لن يجعلها تتخلى عن حوارات القاهرة، وهي يمكن أن تلقي حبل إنقاذ لمحمود عباس عبر اتفاق ما، أو على الأقل عبر استمرار الحوار.
أما اليسار، فلا يريد الخروج من العلاقة بالسلطة التي تكوّنت خلال عقود، وأن يتخلى عن التشابك الحاصل، ويؤسس لسياسة جديدة لا يبدو أنه مستعد لها، أو أن وعيه لا يساعد على أن يتوصل إليها.
رغم كل ذلك، يجب أن تطرح مسألة حل السلطة كهدف عملي، وأن يجري تطوير النضال ضد الاحتلال وضد كل الذين يعملون على تأبيده وحمايته. فالسلطة باتت عائقاً أمام استمرار النضال الفلسطيني.
* كاتب عربي