Strong>سناء الخوريتميل خُصَل غرّتها الحمراء شرقاً. السترة عاجيّة. تطريزة جواربها تُشبه شباك صيد معتَّقة. أرتِّب غرّتي المبعثرة، في محاولة لتثبيتها في اتجاه ما، أسوةً بغرّة السيّدة الأنيقة المتجهة نحوي. عمّال الاستقبال في ردهة الفندق لا يتركونني لهمّي. «من تكون هذه الستّ؟» يسألون مراراً. أجيبهم بتعالي العارفة: «إنها فينوس خوري غاتا، أديبة مهمّة»، وسرعان ما أندم على ازدرائي للكادحين... أخبار أهل الفرنكوفونيّة ليست في سلّم الأولويّات لدى هؤلاء، على الأرجح. خوري غاتا، وغيرها من نجوم «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت»، ليسوا بالنسبة إلى غالبيتهم إلا نزلاء إضافيين، يتكلمون لغةً أنيقة.
تختار صاحبة «أي ليلة من بين الليالي» (2004) ركناً هادئاً نجلس فيه. لون الذهب في عقدها عتيق كالأنوثة، كتجاعيدها الهافية. تلتف أزهار مذهّبةٌ صغيرة حول عنقها، وتتدلَّى وسطها لؤلؤة ضخمة. تبدو مجوهراتها العفويّة، جزءاً من جسدها. عندما نسألها كيف بقيت هكذا، «جميلة»، رغم ثقل السنين، تضحك. «عندما ينطفأ الوجه، وحدها الكتابة تنعشه»، تجيب. تجد اسمها المستلهم من إلهة الحب والجمال عند الرومان، حملاً ثقيلاً، وإمضاءً طويلاً على الصفحات الأولى لكتبها. السيّدة في العقد الثامن، وتتشارك مع قطتيها وكتبها شقَّة في أحد أبنية شارع «رفاييل»، على الأطراف الخضراء لباريس. أنجزت حتّى الآن أكثر من 40 كتاباً بين شعر ونثر، وتشكيلة من الجوائز الأدبيّة. أمّا المقربون منها، فيرونها امرأة تسندها الكلمات.
حين غادرت بيروت أوائل السبعينيات، مع زوجها الثاني الطبيب الفرنسي جان غاتا، تركت خلفها بلاداً من بارود ورصاص. توفي زوجها عام 1981، تاركاً لها ابنة في السادسة، وجبلاً من الضرائب. «شعرتُ بأنّ لعنةً تلاحقني»، تقول ناطورة الحِدَاد اللامتناهي. يحتلّ الموت معظم عوالمها، يلاحقها كمحرك لفعلها الأدبي. كانت بداية اللعنة مع أخيها فيكتور، الذي قضى بعد معاناة في مستشفى للأمراض العقليّة. مأساة هذا الأخ الشاعر الذي لجأ إلى المخدّرات لينسى فشله في نشر قصائده في باريس، مثّلت دافعها الأول للكتابة. كأنها تكتب بالنيابة عن هذا الأخ. لاحقاً، حطَّمت وفاة زوجها رغبتها في الاستمرار، فكانت الآلة الكاتبة ملجأها. «أنقذتني الكتابة... صحرائي الوحيدة أن يكون رأسي خاوياً من الكلمات»، تقول.
أنقذتها الكتابة أيضاً من ذكريات حرب قاتلة. في «عشيقة الوجيه» الصادرة عام 1992، تحكي قصة بناية على خطوط التماس البيروتيّة، يقبع على سطحها قنّاص. كانت صديقتها، والدة المخرج الراحل مارون بغدادي، تسكن فيها، وهي نفسها البناية التي ابتلع مصعدها المعطّل جسد المخرج الشاب. كلّ ما في روايات فينوس، ومضات من حقيقة مؤلمة. من قصّة عائلتها الممزّقة تحت سطوة أب ظالم، كما في روايتها «بيت على حافة الدموع» (2005) وصولاً إلى قصص نساء معذّبات.
في «سبعة أحجار للمرأة الزانية»، رسمت صورةً سكنتها طويلاً. امرأة تنتظر يوم رجمها، وفي أحشائها ثمرة «خطيئتها». الجنين يكبر، وأمّه «الملعونة» تراقب كدسة الحجارة تعلو يوماً تلو آخر. كان ذلك ما شهدته بأم عينيها، حين كانت في زيارة لإيران... بعد هذه الرواية، الصادرة عام 2007، أصبح اسم فينوس تعويذة سحريّة للجمعيات النسويّة حول العالم، وأصبحت تتلقَّى منها دورياً معلومات عن الإساءات المتنقّلة بحقّ النساء. «أكتب لكلّ اللواتي تصبح وجوههن داكنة. لكلّ اللواتي يموت أطفالهنّ أمامهنّ جوعاً وعطشاً»، تقول. «أمّا المرأة اللبنانيّة، فقد وصلت الآن إلى القمّة. معظم اللبنانيات يؤدّين دور الرجل والمرأة في الوقت نفسه. في أيامي، كنا نبحث عن زيجة موفقة فقط»... تضحك.
من أيامها تلك حملت أيضاً ذرّاتٍ من هواء بشرّي، بلدة جبران في أعالي الشمال اللبناني. «كانت أيام حريّة. كنا نترك بيروت، ونذهب مع أمي لقضاء العطلة في القرية، بعيداً عن تسلّط والدنا. كنت أنتظر اللحظة التي أصل فيها إلى الضيعة، لأخلع «السكربينة»، وأسير حافيةً في الدار. أذكر قبر جبران، والشلال، والعنزات، ووادي قاديشا». في العام الماضي، زارت مسقط رأسها برفقة تلفزيون فرنسي، كان يعدّ برنامجاً عنها، متقصّياً عوالم من طفولتها تتردّد في نصوصها. «لم أجد شيئاً من متعي الطفوليّة تلك. الشلال صار خيط ماء. أردت زيارة قبر أمي، فإذا بي لا أجد المقبرة. وجدنا عنزتين في كعب الوادي، ولم يسمح لنا المعّاز بتصويرهما إلّا بعدما دفعنا له المال».
اختارت شقّتها بعيداً عن الصخب الباريسي، لتبقى قرب الطبيعة. هناك، تنجز كلّ شيء بيديها، تماماً كجميع بنات الجرد. تستيقظ في السادسة صباحاً، تفتح الباب لقطتيها، تزرع، تمرّغ يديها بالتراب، ثمّ تتفرغ للكتابة. تطبخ أيضاً «طعاماً لبنانياً فقط». لا تسمح لأيادٍ غريبة بالعبث بمملكتها... «حتّى شعري أصفّفه بنفسي». بريدها كلّه تكتبه بخطّ يدها، لا تستخدم الإنترنت، ولا تعرف لماذا يفضّل الناس الهواتف الخلوية. تقرأ كثيراً، لكونها عضواً في لجان قراءة وتحكيم متنوعة. من أولادها الأربعة، ورث اثنان عنها مهنة القلم. ابنها غسان خوري، ينشر قريباً «قاموس السخرية»، وابنتها ياسمين غاتا، تشق طريقها في عالم الرواية. هي اليوم أيضاً، جدّة لستّة أحفاد. أمّا الحب، فاتخذ مسارات أخرى منذ رحيل زوجها. تشعر وأنت تحدثها بأنّ شخصها كلّها وقفٌ على لحظة الفقد تلك.
قبل أيام في بيروت، وقّعت روايتها الأخيرة «العائدة» (Ecriture) في «معرض الكتاب الفرنكوفوني»، وهي سيناريو لفيلم كتب منذ 20 عاماً، ولم يجد المخرج البولوني أندريه زولافسكي طريقاً إلى تنفيذه بعد. تكتب بالفرنسيّة، لكنّ فكرها يشتغل على الموجة العربيّة. حين تحدثنا بلغتها الأم، تخرج نبرتها صافية غير متطبعة بأي لكنة فرنسيّة. «أصوغ عالمي الأدبي كمزيج بين اللغتين» تقول. «لكنّ العربيّة حالة خاصة. كلمة شجرة فيها أوراق أكثر من مرادفها الفرنسي، وكلمة بحر تحمل بالعربيّة ماءً أكثر من مرادفها في أي لغة أخرى».


5 تواريخ

1937
الولادة في بشرّي ــ شمال لبنان

1966
نشرت كتابها الأول «وجوه غير مكتملة»، تلاه إنتاج غزير في السنوات اللاحقة

1972
انتقلت للعيش في فرنسا مع زوجها الطبيب جان غاتا

1997
نشرت «أنطولوجيا شخصيّة» شعراً عند دار «آكت سود» (جائزة جول سوبرفيل)

2009
شاركت في «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت»، ووقّعت روايتها الجديدة «العائدة»، وكان لها محطة في الميناء (طرابلس) بدعوة من «الجمعية اللبنانية لتشجيع المطالعة ونشر ثقافة الحوار»