حسان الزينأخفق اليسار اللبناني في التحوّل من تجمعات وأطر أيديولوجية وقيمية إلى قوى سياسية. سبقت الحرب الأهلية، في عام 1975، محاولات داخل الحزب الشيوعي، لكنها ارتبكت ثم تبدّدت إبان الحرب، ولا سيما بعد اغتيال كمال جنبلاط (1977)، الذي كان عنوان اقتراب اليسار من السياسة، إضافة إلى كونه مظلة اليسار والتعبير الإصلاحي المرحلي المراهن على الحركة الوطنية للزعامة الطائفية، من الإقطاعية نحو الرأسمالية الوطنية، بعناوين اجتماعية وحداثة فكرية.
فمع اغتيال «الشهيد المعلم» دخلت محاولات اليسار اللبناني التسيّسية في لعبة حربية ضمن الجغرافيات العسكريّة التي باتت أمراً واقعاً، ومن دون سياسة، فرُحِّلت العناوين الاجتماعية والسياسية إلى الخطاب الأيديولوجي، وتخشّبت اللغة، وعادت المحاولات السياسية إلى نقطة الصفر وتحولت إلى مجرد انتماء إلى مشروع وتيار أُجهِضا وباتا بلا رأس، لا سيما مع تبدل أولويات حزب كمال جنبلاط، رأس «الحركة الوطنية»، من وطنية اجتماعية إلى مذهبية مناطقية، ومن تغييرية تجاه النظام الطائفي إلى تطبيعية وتبعية تجاه السياسات الإقليمية والدولية، وتحديداً مع الأنظمة «العروبية ــــ التقدمية»، بلغة ذاك الزمن.
في المقابل، لم ينجح اليمين اللبناني، المارونية السياسية خصوصاً، إلا في تحفيز الطائفيات الأخرى المناقضة لتفرّد طائفية سياسية واحدة في النظام. فمع الممارسات الطبقية والطائفية لليمين قبل الحرب وإبانها، ومع وقوفه ضد القضية الفلسطينية، فقد القدرة حتى على تجديد تعاقده مع «السنية السياسية»، التي كانت، في لعبة خفّة، تُستبدل بـ«المسلمين». ففي 1958، ثم في بداية السبعينيات مع انتقال العمل الفلسطيني المسلح من الأردن إلى لبنان، أخفق اليمين المتحالف مع «الغرب» و«دول الاعتدال العربي» في الحفاظ على الصيغة التي تدّعي الشراكة مع المسلمين. فالانحياز إلى حلف دولي محتضن لإسرائيل وهي جزء رئيس منه، أفقد اليمين ملكة المناورة ودفعه إلى المغامرة والتبعية، وتالياً، خسر السياسة وبات أكثر فأكثر أيديولوجيّاً يبحث في التاريخ عما يشد أزره ويغذي خطابه، تماماً مثل الفاشيّات العنصرية.
بين هذا وذاك، كان الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تنازعه، في المحطات المحليّة والإقليمية المختلفة، تياران، يميناً ويساراً. فهذا الحزب (1932) مستعد دائماً لقراءة نقاط ضعف النظام والمجتمع (أو المجتمعات)، ولديه رادار عالي الاستشعار لفك شيفرة السياسات الإقليمية والمحلية. هذا من جيناته التكوينية. وبالرغم من ذلك، ما زال الصراع فيه حاداً بين العقيدة القوية والسياسة الضعيفة.
لعل ولادة حزب الكتائب (1936)، حالت وتحول دائماً بين القومي واليمين، إذ تكوّن عبر العقود لدى القومي تجاه اليمين غرام وانتقام.
ولعل، في الجهة الأخرى، وجود الحزب الشيوعي (1924) حال بين القومي واليسار، إذ تكوّن عبر العقود لدى القومي تجاه اليسار كره عذري لا يخلو من رغبات جنسية أقرب إلى الساديّة.
لقد بقي هذا الحزب العلماني دون السياسة. السياسة عنده انقلاب وعصبويّة ولعب على موازين القوى في الأنظمة وعليها، ولا سيما في لبنان. ومع ارتباطه بالنظام في سوريا، مركز الأمة التامّة، ركب في البوسطة السورية، يفيد ويستفيد من ذلك. ودائماً، يجد في عقيدته ما يبرّر سلوكه وأداءه. وهكذا، بات يرفع لواء العلمانية ويشارك على مدى سنوات في الوصاية السورية التي، في ظلّها، تعطلت جوانب إلغاء الطائفية من اتفاق الطائف. وإذ يحكي بالمواطنة ويفاخر بوجوده في المناطق والطوائف كلها، تراه ابن القواعد الأهلية في المناطق والطوائف، ووجوده هنا أو هناك إفراز لتشقّقات تلك المناطق والطوائف وعناوينها المحليّة. فهو، مثلاً، في البيئات الدرزية محكوم بالاستقطابات الأهلية المختلفة مع الزعامة الجنبلاطيّة. وهو في المتن الشمالي، منطقة المؤسس أنطون سعادة، غارق بالصراعات الأهلية التاريخية الطائفية والعائليّة، ولا سيما ضد حزب الكتائب. أما في البيئات الأخرى فوجوده محدود. في البيئات السنيّة انحسر وجوده مع استقلال الكيان اللبناني ودول المنطقة بعدما كانت العقيدة السورية القومية تخاطب البرجوازية، لا سيما في المدن السورية. وشيعياً، لم تخاطب القومية السورية الحراك السياسي ضد «الحرمان» الذي نحا اتجاهاً مذهبياً بعدما اخترقه تيار يساري ماركسي مثّله الحزب الشيوعي اللبناني في مرحلة المحاولة السياسية.
هكذا، بقي القومي السوري، طائفياً، ضمن المساحة اليزبكية في البيئات الدرزية، وضمن المساحة الأرثوذكسية وبعض العائلات المارونية المختلفة مع زعامات مناطقها وطوائفها في البيئات المسيحية، وضمن الهامش الريفي في البيئات السنيّة.
فالحزب السوري القومي الاجتماعي، علماني العقيدة مواطني الخطاب، ما زال أهلياً. وبالرغم من كبر حجمه المتراكم تاريخياً جيلاً بعد جيل، ما زال يصطاد بالسنّارة، وغالباً ما يستثمر الظروف المجتمعية والاقتصادية. فهو حين يتوجه إلى المهمشين والفقراء، يفعل ذلك من دون خطاب طبقي تغييري، بل عقائدي، يستغل التهميش والعوز لدمجهما في شعارات العلمانية واللاطائفية والأمة. فيما ترعى آلياته، لا سيما العصبوية في لبنان والمغترب والشبكة العنكبوتية حول هذه الوزارة أو تلك التي يتولى حقيبتها وزير من الحزب (العمل خصوصاً)، برجوازيين من الحزب والناشئين تحديداً.
هذا، وارتباطه بالسياسة السورية وشعاراتها، جعله حزباً لا سياسياً، يجذب عقائدياً ويؤدي أدواراً إقليمية من جهة وأهلية محلياً من جهة أخرى.
أين الحزب السوري القومي من الهموم الاجتماعية والمدنية للمواطنين؟ أين هو خارج المسرح «السياسي» التقليدي اللبناني، الذي يرسمه ويضع عناوينه ورواياته اليمين والقوى المذهبية المتعددة والمتصارعة أو المتفقة على مصالحها الطبقية والزعامتية؟ أين هو من السياسة؟