محمد بنعزيز *في نهاية السورة التي تحكي قصته في القرآن، شكر النبي يوسف ربه بعدما صالحه بإخوته وجاء به وأهله من البدو وأدخلهم مصر آمنين، وقد دلّ ذلك على أن الانتقال إلى الحضر نعمة كبيرة.
هذه نعمة يكتشفها بمتعة سكان بوادي المغرب، الذين يهاجرون إلى المدن. تذهل الفرحة الساكن الجديد، إذ فجأةً صار لديه صنبور يصب ومصباح بزرّ ومحيط البيت مضاء، بخلاف منازل القرية التي تغرق في ظلام مخيف بعد أذان المغرب.
لقد كسب المهاجر الأمان والرفاهية، وتخلّص من العمل البدني القاسي، وتحرر من ثقل الروابط الاجتماعية التي تستهلك موارده وتقيّد سلوكاته، ويفخر الآن بأنّه “يستطيع أن ينام ويستيقظ متى شاء”... وهذه مشاعر لا يتحسّسها إلّا من عاش طويلاً في ظلام البادية وشظفها. ظلام بالمعنى الفيزيائي والرمزي.
هكذا أفادت الثورة العقارية، التي يعرفها المغرب وبقاع كثيرة من العالم، أفادت أهل الريف، لأن المضاربين يعمدون إلى شراء أراضٍ في البوادي التي تخترقها الطرق الجديدة وتوصل بالكهرباء، يشترون بأسعار تبدو للفلاحين الفقراء فلكية، وهم الذين كانوا يرون أن أراضيهم لا تساوي شيئاً، ولا تدرّ عليهم ما يسدّ رمقهم.
يبيع الفلاح 20000 متر من أرضه في البادية، ويشتري شقة من 50 متراً في ضاحية إحدى المدن الكبرى، ويشكر الله الذي مكّنه أن يبصر محيطه ليلاً ونهاراً، بينما يستمتع أهله بالفضاءات المدينية، حيث الأسواق والمهرجانات التي تنظمها الدولة ترحيباً بالوافدين الجدد الفرحين برغوة الرفاهية المعلنة. رغوة تشهرها الدولة نكاية في سكان المدن المعتقين، الذين يقاطعون الانتخابات ويطرحون مطالب عالية.
في 1960، كان 71% من سكان المغرب يستقرون في البادية، بينما 29% في المدينة. في 2005، قفز سكان المدن إلى 55%. شمل التغيّر طبيعة الساكنة أيضاً، ارتفعت نسبة العزّاب بين البالغين إلى 40% حسب إحصاء رسمي. ولهذا تبعات.
إذ بعد الدهشة تأتي الصدمة. يجد القروي نفسه وسط ناس لا يعرفهم، ليسوا أهله، ثم يضيق بضيق المكان، وهو الذي تعوّد الفضاءات الرحبة، صار يقرفص في مرحاض كزنزانة. والأخطر هو تأثر الأبناء بمحيطهم الجديد، وخاصةً البنات، لذا يحار الأب، لا يستطيع أن يفرض على ابنته ارتداء ثلاثة أمتار قماش كما في القرية، ولا يستطيع أن يسمح لها بتقميط فخذيها في نصف متر جينز... وتشتد الحيرة لأن البنت هي أول من يحصل على عمل في سوبر ماركت، حيث تقضي النهار تدور بمكنسة كهربائية. وهنا يجد القروي، صاحب الشوارب، هويته الذكورية رهينة في يد “حُرمة” تنفق عليه، بينما تبدّدت ثروته الصغيرة وصار على حافة المجاعة. حينها يستكشف مصيره، لكنه لا يستطيع العودة إلى القرية المظلمة، ثم إن المدن سحر وعجب، لولا أنها تغوي الأبناء بسلع لا يملكون نقوداً لشرائها، وهم يتشاجرون مع آبائهم لابتزازهم. وبين شجار وآخر يسقون أرواحهم بفيض الأفلام التركية والهندية والمكسيكية الطافحة بالحب والسعادة، عزاء المحرومين وهم يتأملون بحقد جيرانهم الأغنياء الجدد، ينعمون بسيارات ألمانية فارهة. طبعاً فجرّافات الهدم والبناء لم تفد الجميع، بل رسّخت توزيعاً غير متكافئ لثمار النمو الاقتصادي.
تتجاهل وسائل الإعلام هذه التحوّلات لأن “اليومي العادي” لا يستحقّ الصفحات الأولى التي تخصّص لألاعيب السياسيين
نتيجة للهوّة العميقة، يندلع عنف اجتماعي رهيب، عنف مؤذ ومدمّر، عنف مادي وعنف هوية. العنف المادي متنوع بين الإخوة: قتل أكثر من أربعون ألف مغربي في العشر سنوات الأخيرة، ليس في حرب أهلية، بل على الطرقات، مع أن 6% فقط من المغاربة يملكون سيارات. بعملية حسابية متفائلة، حين سيكون لدى 30 % سيارات، فسيقتل ربع مليون أخ. مجازر الطريق علامة على مزاج عدواني لفظياً ويدوياً، عراكات بالسيوف والسكاكين، أستاذ جامعي يخنق طالبته في فصل دراسي نهاراً في الجامعة، موظف يذبح طفلتَيه، أمّ تستلقي أمام القطار فيفرمها مع ابنتيها لأن زوجها يوبّخها على إنجاب البنات، خادمات يتعرضن للكي في أعضائهن التناسلية. عنف يتركّز على النساء أساساً “لإنتاج أجساد خانعة” كما قال ميشيل فوكو.
على صعيد الهوية، تعدّ النقلة المكانية نقلة قيميّة أيضاً، وهي تفرض هويّة جديدة، وعلاقات قاسية في تجمعات سكانية ضخمة مزدحمة غير منسجمة، تجمعات مصابة بالانفصام بين الحداثة والتقليد. الحداثة التي يفرضها قانون السوق الذي يحوّل كل شيء إلى سلعة، طاقة البشر وأيديهم ومشاعرهم وأجساد النساء، كل شيء قابل للتداول... والتقليد الراسخ في المجتمع. ومن هذه الخلطة خرج إسلام لايت، تديّن بدون سُكّر، يجمع بين المحافظة ومتطلبات قانون السوق، والعلامة الدالة عليه هي حجاب لايت، حيث مساحة القماش الذي يغطي الرأس أكبر من القماش الذي يتوزّع على كل الجسد.
لحسن الحظ، المغرب لا يجلد صاحبات سراويل الجينز، بل لا يجلد حتى اللواتي بلا سراويل، وهن يرتدين تنانير قصيرة فوق الركبة بعشرين سنتيمتراً، رُكَب ممتلئة تسرّ الناظرين، هذه عروض في جزء منها مدرّة للدخل، دخل مهين، ثمن الليلة من 10 دولارات حتى 50 دولاراً، حسب الحي الذي يجري فيه التفاوض وجنسية الزبون. العرض الجنسي متوافر وهو يتعدى الطلب، وقد تضاعف زواج المغربيات بالأجانب ست مرات منذ 1997، لكن ما أقلق البعض هو الزواج بالشيعة، بينما الزواج بالأوروبيين مفرح. يردّد المنطق الذكوري أن النساء في المغرب لو قسمن على الرجال لحصل كل واحد على ست نساء وهناك من يقول عشرة. كلما تحسن الوضع الاقتصادي للنساء، تزايد انتشار الحكايات الذكورية الانتقامية ضدهن، وهنّ موطن الهوية، لذا يبتهج الرجال لمظاهر الحداثة في كل شيء، ويرتعبون عندما تمس هذه الحداثة حقوق النساء ولباسها، شبان كثيرون أجّلوا الزواج بعد تعديل مدوّنة الأسرة، وقد جرت في رمضان حملة لفرض الحشمة القروية على مانيكانات البلاستيك في واجهات المحالّ في الدار البيضاء.
لا تحظى هذه التحولات بالدراسة السوسيولوجية اللازمة، كما تتجاهلها وسائل الإعلام لأن “اليومي العادي” لا يستحق الصفحات الأولى التي تخصص لألاعيب السياسيين غير المحترفين (فهم تجار أيضاً، مقاولون بالمعجم الجديد). لكن ما يمكن الوقوف عليه هو الأثر السياسي لتزايد تمدّن المغاربة، أي سكنهم في المدن. فمن جهة، تفقد الدولة الفلّاح الذي اشتهر بأنه المدافع عن العرش، حسب عنوان كتاب للباحث الفرنسي ريمي لوفو، ومن تجليات ذلك الافتقاد التراجع المنهجي لنسب التصويت في الانتخابات. ومن جهة ثانية، تواجه السلطة صعوبات في تدبير المدن وتوفير سبل العيش والأمن في الأحياء الجديدة التي تتضخّم بشكل مهول. الغريب أن هذه الأزمات الرهيبة لا تولِّد احتجاجات سياسية، بل تولد انطواء المواطن المديني، الذي يمشي ذاهلاً يكلّم نفسه، يفكر في البطاطا قبل الدستور، وهو حين يلاحظ حجم المخاطر اليومية المحدقة به، يفرح كثيراً إن أدركه الليل في بيته، حيّاً، بل سليماً ومعافى.
حينها يطلع له وزراء الحكومة في التلفزيون يشتكون بذلّ من الأزمة، يشعر المواطن المديني بكبريائه شامخة لأنه صامد، لكن لا ينتبه إلى أن الحكومة حلّت محله وسرقت صوته لتشتكي بدلاً منه. وتحقّق هذه اللعبة هدفاً سياسياً مذهلاً: تقلّص بل وتمحو توقعات الناس من الحكومة. وهذا قمة ما تتمناه أية حكومة، أن تتخلص من عبء المطالب، وتندّد هي أيضاً بالغلاء، لكن هذا الغلاء من يعرفه؟ حتى الوزير الأول يشجب الغلاء بشدة.
حين يتمأزق القرويّ السابق في تلك المتاهات الاجتماعية، وتضلّله هذه الألاعيب السياسية، يدرك أنه لم يدخل المدينة وأهله آمناً... ولم يتصالح مع نفسه، فكيف بالأحرى يتصالح مع إخوته.
* صحافي مغربي