أنسي الحاجحتّى لو صدر هذا المقال وكانت المشكلة قد انحلّت، لن يكون شيء جوهري قد انحلّ في المشكلة، وسيظلّ كلام مثل الكلام التالي في محلّه.

■ ■ ■


مجتمع دينُه الحيويّة، يحكمه الشلل. تاريخ الغَلَيان التجاري والمعيشي والثقافي، يتخبّط في العجز. عجزٌ عن مواجهة إسرائيل؟ عجزٌ عن تأليف «الألياذة»؟ بل عجزٌ عن تأليف حكومة. خلال خمسة أشهر من الأفلام الهزليّة الفاشلة أصبح العجز عن تأليف حكومة هو الحكومة. نحن لا نصدّق الأعذار التي تُقدَّم لشرح الأزمة، لأننا نعتقد أن هذه الأزمة، كسواها ممّا سبق وممّا سوف يتبع، لها غاية تتجاوز الملعوب بهم نحو تأكيد عدم أهليّة لبنان لأن يكون دولة ذات سيادة.
ولهذا نضمّ صوتنا إلى أصوات نفترض أنها لا تزال تريد أن تقول: أيّ شيء هو أفضل من إعلان اليأس. المجازفة ولا الاستسلام. مهما قُنّع اليأس بوجوه الحقّ والعدل، ومهما قُدّم الاستسلام (الاستسلام للانتدابات، الاستسلام للشانتاج، الاستسلام للتقسيم...) على طبق من حلول «إنقاذيّة».
لا نعرف مَن من العماد عون و«حزب الله» ومَن وراءهما أو من 14 آذار ومَن وراءها هو المسؤول عن تَوَحُّل الأزمة. ونرفض أن نصدّق ما قد يبدو نيّات حسنة أو حقوقاً مشروعة. ونرفض أن نتساهل في التقييم كما تساهل رئيس الجمهوريّة. نحن لا نرى في هذه الفضيحة إلاّ ضحيّة واحدة هي الناس وفريسة دائمة هي لبنان. وعدم المؤاخذة من الذين تثير اشمئزازهم وضحكهم كلمتا الناس ولبنان. وعدم المؤاخذة من الذين يفضّلون الشماتة على التعاطف ومن الذين يفضّلون أيّ شيء على لبنان.
لا نقول ذلك أسفاً على فراغٍ في السلطة، بل على مئات ألوف العقول التي ترضى بهذا المقدار من الخداع والنفاق.
بعض الحقائق ينكشف بفضل الفراغ، وهذا نجاح يحقّقه الفشل: الفشل في تأليف حكومة هو نجاح في إظهار العقم السياسي والتحالف الموضوعي القائم بين المعارضة والموالاة ضدّ مصلحة الشعب وفكرة الدولة. والمثير للغضب أشدّ ما يكون هو طيبة الناس. كيف لا يثورون. كيف يَقْبلون بكلّ شيء. والتعبير المروّع عن هذا الإفلاس العام هو، كالعادة، اللغة الصحافيّة والإعلاميّة التي تترجمه يوميّاً بنسيجٍ عنكبوتي ميّت مميت أضحى معه اجترار الخواء تمريناً وطنيّاً وتصديق الترّهات انضباطاً جماعيّاً والتثاؤب هو النشاط الوحيد للدماغ.

■ ■ ■


و«الشعب» في كلّ هذا الانحلال حيث هو: قبائل يحرص رؤساؤها على نَقْعها في خلّ التخلّف، وتأصيل غرائز التعصّب والعدوانيّة فيها، ونفض الرماد عن هذه الغرائز كلّما خبا وهجها. قبائل تتبادل الحَذَر والخوف، تتعاقب كلّ بدورها على منصّة الطغيان، فالمستبدّ بالأمس صار مستبَدّاً به، والمستبَدُّ به بالأمس يجلس الآن على العرش. ما عدا ذلك لا وجود للشعب.
هل كان للشعوب وجود حقّاً ذات يوم؟ هل هو الشعب الفرنسي ذلك الذي قام بالثورة الفرنسية؟ والثورة البولشفيّة هل كانت انتفاضة الشعب؟ وأيّ شعب؟ و«الثورة العربيّة الكبرى»؟ وخَلْع النظام الملكي في مصر؟ والخلافة العثمانيّة في تركيا؟ والعرش في العراق؟ وبورقيبة في تونس؟ والملك في ليبيا؟ و«الستار الحديدي» في أوروبا الشرقية مَن ذا الذي أسقطه؟ وتشاوشيسكو وزوجته هل قتلهما الشعب أم عملاء؟
كيف تُستحضَر الشعوب فجأة في لحظة وتغيب دهوراً دون تفسير؟ ألا يحقّ للمرء، بعدما انكشفت حقائق عن خرافات كثيرة، أن يرتاب في روايات التاريخ ويذهب إلى حد الاعتقاد بأن ما كان يُنسب إلى إرادات الشعوب، فيه ما فيه من صنع «الدوائر» و«المحافل» و«الأجهزة»؟
ما يحصل في لبنان يستعصي على التعبير. والغثيان العام الذي يكشف مرّة أخرى ارتهان المجتمع السياسي للإرادات الخارجيّة يبرّر ألف مرّة نشوب ثورة شعبيّة لو أن كلمة شعب تحمل المعنى المفترض لها. لكنّها ليست ولم تكن يوماً بأكثر من واحدة من مفردات المسرح الهزلي.
تُرسَم للناس أقدار وتُفرض عليهم مصائر ويُدخل في روعهم أنّهم هم مَن يقرّرون. والناس مساكين لا يأتيهم من الأخبار إلّا سماع نشرتها. والتاريخ هو ما يُلقَّن لأولادهم في المدارس. وهو ما سيكون أولادهم وقوداً له في السلم وفي الحرب، زبائن للاستهلاك أو لحماً للمدافع.
يُجْمَع الناس على «شعب» عندما يُراد التزيين بهم، ويُفْرَدون على أرانب حين يُراد اصطيادهم. ولا يختلف التزيين عن الاصطياد إلاّ بالمناسبة، فالتزيين للخطاب والتغرير المصيري، والاصطياد نهجٌ يوميّ موزَّع بين الاستغلال المعيشي وسائر أقفاص الهيئة الاجتماعيّة، من الزواج إلى المدرسة إلى الضرائب إلى إدمان «الحاجات» المبرمجة كالطبابة والمَلْبس والأركيلة والسيجارة وأداء الفرائض الدينيّة.

■ ■ ■


عندما نقول عن اللبنانيين إنهم قبائل لا نظلمهم بل نضع الإصبع على جرح انظلامهم. كلّ الشعوب كانت قبائل قبل أن يتسنّى لها مَن يزرع فيها حسّ المواطنيّة وينمّيه، وقبل أن يزرع في الناس وعي إنسانيّتهم ويرقّيه فيصبح قدس الأقداس.
اللبنانيون مظلومون بزعمائهم وحكّامهم ظلماً ربّما باتوا يستمرئونه بسبب غياب التنشئة المدنيّة والإنسانيّة، ولكنّهم كانوا سيتحرّرون منه ومن سلوكاتهم الانتحاريّة لو قُيّض لهم رُعاةٌ مصمّمون على الانتقال من طور القبليّة الحَجَريّ إلى عهد المجتمع الحديث الذي يشعر فيه كلّ فرد بأنه مسؤول عن المجموع وأن المجموع مسؤول عن الفرد بل عن كلّ حجر وشجرة وموجة ونسمة هواء.

■ ■ ■


لن تكون الحكومة التي ستتألّف أفضل من سابقاتها، لكن عدم تأليفها يتعدّى ظاهره السياسي ليصبح فضيحة أخلاقيّة. تأليفها سيعكس على الأرجح رداءة الواقع السياسي لكن عدم تأليفها يعكس الاضمحلال. يعكس إرادات المُلَعّبين التي لا تزال تبتزّ روح هذا الوطن منذ استطاعت الإيقاع به. وكلّ ما في الدنيا يصرخ بأهل السياسة أنَّ أدنى واجباتهم حيال الشعب المعذَّب والبلد المصلوب هو أن يكونوا أكثر خجلاً.



■ وجهتا نظر



كـــان فلان يُشبّـــه فلانـــاً بالأَدغـــاليّ. أجابه فلان الثاني: أنا بالأحرى انحطاطي. فقال الأول: وحشيّ وانحطاطي.
ـــ كيف؟ بالتناوب؟
ـــ بل بالتجاذب، كالإيجاب والسلب.
ـــ لا تعجبني هذه الصورة. اختناقيّة. رتابتها، خلوُّها من المَهْرَب... فأرٌ في المصيدة.
ـــ أليس ذلك أفضل من أن تكون، مثلاً، إيجاباً دائماً أو سلباً دائماً؟ التناقض يشرح الصدر.
ـــ انشراح السجين. حريّةٌ بلا خيار...
ـــ روح الأدغال تحملك إلى الأطراف وطراوة الانحطاط تمسح جبينك. ماذا تريد أكثر؟
ـــ أريد ما يضاهي براءتي.
ـــ طموح مضحك. أيشترط الإنسان على القَدَر؟
ـــ يشترط على روحه.
ـــ روح الأدغال لا تضعف وروح الانحطاط لا تفيق من سكرتها إلّا ليأخذها جموح الأدغال.
ـــ عبثاً تقول. تراني في ما لا أراني فيه.
ـــ ما تراه في نفسك يثقله الغرور وتعوزه المحبّة. لا تُجبْني أنك تعشق ذاتك، أعرف هذا، ولكنه عشق الغرور وليس عشق المحبّة. المحبّة التي تفتقر إليها هي محبّة الناظر إليك من خارج، المحبّة المفعمة بالطيبة والخالية من الطمع. لقد رأيتُ فيك تناقضين يُنتجان خيراً، وأنت لم تستطع أن ترى في نفسك، نفسك التي تكرهها بينما تحسب أنك تعشقها، إلّا التظلّم والمرارة. نظرتي إليك ترى الشجر والماء وأنت لا ترى في نفسك غير صحراء ليست فيك بل في جهلك.