نحسد دولاً غربيّة على أرشيفها، وعلى فتحه وإن بعد عقود، وإن بعد مراقبة وحذف وتحبير. الدول العربيّة تتعامل مع الأرشيف على أساس أنه وقف خاص بالعائلة المالكة، تفتحه جزئيّاً، وأمام الرجل الأوروبي الأبيض وحده. الهاشميّون (الحسين وعبد الله) أتاحوا لآفي شلايم ونايجل أشتون الاطلاع على أوراق الحسين الخاصّة، لأنه يحقّ للرجل الأوروبي الأبيض ما لا يحقّ للعربي. ولا ندري إذا كان زاهي البستاني قد أخذ معه أرشيف الأمن العام. لكن الأرشيف الغربي لا يفصح عن كل شيء. المخبّأ أكثر من المنشور
أسعد أبو خليل *
لا شك بأن الباحث الذي يغوص في مكاتب الأرشيف الغربي (أو الإسرائيلي بناءً على بعض دراسات العرب ممن زاروا «الأرشيف الصهيوني المركزي») يُصدَم، لأن ما يُنشر لا يفي بالغرض أو بالنهم الأكاديمي. فالمدّة الزمنيّة التي تستر الوثائق طويلة، وطويلة جدّاً، ثم إن المنشور يخضع للرقابة، كما أن المخبّأ كبير جداً. لكن ما هو سبب الحرص الغربي على عدم كشف الأسرار عن العالم العربي رغم مرور الزمن (بالعقود لا بالسنوات فقط)؟ السبب واضح: أن بعض العائلات والسلالات الحاكمة، أو بعض أولاد من كان حاكماً في منطقة الشرق الأوسط، لا يزالون في موقع المسؤوليّة وموقع التعاون مع الاحتلال والوصاية الغربيّة، أو حتى مع إسرائيل كما هي حال الملك المهووس (مثل «محسوبك» سعد) بألعاب الفيديو. تحرص الولايات المتحدة، مثلاً، على حماية من تعاون ومن يتعاون معها في الشرق الأوسط. كيف يمكن أن تنشر الحكومة الأميركيّة أسراراً تتعلّق بالسلالات الحاكمة، والسلالات هي هي بعد أكثر من ستة أو سبعة عقود من الزمن (أو بضعة قرون في حالة بعض السلالات، مثل آل بو سعيد)؟ إن كشف بعض هذه الأسرار يعرّض بعض هذه الحكومات لخطر الانقلاب أو الاهتزاز. لهذا، فإن الوثائق الأميركيّة لا تفصح عن أسرار إلا في ما يتعلّق بمن لم يعد يمثّل زعامة أو من انقرضت سلالته. لهذا، فإنك تجد وثائق عن أفراد غير معروفين أو عن سياسيّين لم يتركوا زعماء، أو أن سلالتهم أو زعامتهم انقرضت بالكامل. أي إن الأرشيف الأميركي (والغربي عموماً) لن يُنشر بصراحة ومن دون رقابة قبل أن تتغيّر التشكيلة الحاكمة في المنطقة برمّتها.
فهناك وثيقة مهمّة مثلاً، عن اجتماع لرؤساء البعثات الأميركيّة في الشرق الأوسط من عام 1951 (وهي موجودة في محفوظات مركز «أرشيف الأمن القومي» القائم اليوم في جامعة جورج واشنطن وله موقع مفيد على الإنترنت، وهو مركز خاص يسعى، عبر الاستفادة من حق طلب نشر وثائق تحت قانون ما يُسمّى هنا «قانون حريّة المعلومات»، إلى الكشف عن خفايا تاريخ وبعض حاضر السياسة الأميركيّة الخارجيّة والدفاعيّة)، وهي تتضمّن تحليلاً وتقويماً لكل أعمال السياسة الأميركية وإجراءاتها في الشرق الأوسط، إلا أن القسم المتعلّق بتقويم العمل الاستخباراتي مُسوَّد بالكامل (وتمرّ الوثائق على مسؤولي السياسة الأميركيّة في وزارة الخارجيّة لتقرير مدى الضرر على سياسات ومصالح حاليّة). ويتحدّث واحد من القرارات عن «إدماج» مقصود لللاجئين الفلسطينيّين في البلدان التي تستضيفهم عبر وسائل مراوغة اقتصاديّة، ومن دون الإشارة إلى أهداف سياسيّة كما يحدّد التقرير من أجل إخفاء المقاصد الأميركيّة والإسرائيليّة من المشروع. وهناك وثيقة تتحدّث عن التعاون بين أميركا وبريطانيا في حقل «علم النفس» في سياسات الشرق الأوسط، ولكن من دون نشر تفاصيل في التقرير، ولا ندري إذا كانت الإشارة إلى علم النفس تتعلّق بوسائل التأثير على الرأي العام أو بالتعذيب أو بالاثنيْن معاً. تقارن هذه الرقابة الصارمة بمناطق أخرى من العالم فتجد فروقاً. الأرشيف المتعلّق بأميركا اللاتينيّة، مثلاً، صريح في ما يتعلّق بأنظمة اندثرت، ولم تترك وراءها أبناءً وأحفاداً نجباء على شاكلة سلالات العالم العربي الثقيلة. وتفاصيل الانقلاب الذي أعدّته السي آي إي في إيران عام 1953 نُشرت في كتاب «كل رجال الشاه»، لأن الخبراء في وزارة الخارجيّة قرّروا (عن حق) أنه ليس في الأمر خطر لأن الشاه (أو ذريّته) لن يعود إلى الحكم. أي لا ضرر من إحراجه (أو إحراج عائلته).
كميل شمعون لم يخالف الميثاق الوطني عام 1958 فقط بل خالفه ابتداءً من 1951
لكن الأرشيف الأميركي (مثل البريطاني والفرنسي) يرزح تحت وطأة الفكر الاستشراقي التقليدي في افتراضاته التعميمية عن العرب والمسلمين. فتجد أن السياسة (أو ما سماه الراحل إدوار سعيد «المعرفة السياسيّة» عن الشرق الأوسط، وهي غير «المعرفة المحضة» عن بلدان أخرى) تسترشد باستنتاجات المستشرقين والرحّالة. فالدبلوماسي الأميركي هارولد هوسكنز كتب عام 1951 انطباعاته عن العرب بعد رحلة له إلى بيروت (وثيقة رقم 783إي.00\7ــــ1051 في الأرشيف الوطني في واشنطن، دي سي). ويفرد قسماً عن نفسيّة العرب وتكوينهم العقلي فيقول إن الغربيّين يدهشون لانعدام «المعدن الأخلاقي» عند العرب، لكنه يضيف أن العرب هم «كالمومس في الأغنية الشعبيّة»: يستحقّون «الشفقة أكثر من التقريع، النجدة أكثر من الاحتقار». وفيما يطلع علينا حازم صاغيّة هذه الأيام (من خلال محطة صهر الملك فهد، «العربيّة») بنظريّات مجترّة من سقيم الاستشراق المتمثّل في كتاب «العقل العربي» لرافييل باتاي، ويشكو فيها انعدام مفهوم الفرد عند العرب، فإن هوسكنز يشكو العكس فيقول إن العرب «فرديّون»، أو ما يمكن ترجمته بالنزوع نحو الفرديّة. (يحاول صاغيّة الاستعانة بالاستشراق لتسويغ نظرّيات من مخلّفات العنصريّة البيضاء عن دونيّة العرب، فيتعثّر، لأنه يظن أن الاستشراق الإسرائيلي المبتذل يساوي الاستشراق الأوروبي الغزير العلم، على علاّته). أما إذا كان يمكن الاعتماد على العرب كحلفاء، فإن هوسكنز يقول إن لبنان وقف دائماً في الأمم المتحدة مع الولايات المتحدة إلا في ما يتعلّق بإسرائيل. أي إن لبنان أثبت صلاحيّة الاستعانة بالعرب كحلفاء أو وكلاء.
أما الذين يعتقدون أن كميل شمعون خالف الميثاق الوطني عام 1958، فهم مخطئون، لأن شمعون (وثيقة رقم 783إي.00 \10ــــ252) قال لدبلوماسي أميركي عام 1951 ما يأتي: «لكنكم تعلمون أنه لو تعلّق الأمر بحرب مع السوفيات فإن لبنان هو مئة في المئة إلى جانب الغرب، وإن موانئنا ستُفتح لسفنكم، وقواعدنا الجويّة ستُفتح لطائراتكم، بصرف النظر إذا كنا قد عقدنا أي نوع من أنواع الاتفاق أو التوافق الخطّي» معكم. نشكّ بأن شمعون كان قد توافق على الأمر مع «الشريك المسلم» (أو حتى مع الشريك المسيحي) قبل أن يُلزِم لبنان بحرب غير باردة. والطريف أن شمعون هذا (مثل فؤاد شهاب ومثل كل الطبقة السياسيّة من مسلمين ومسيحيّين) كان ضدّ أن يشترك لبنان في حرب إلى جانب العرب ضدّ إسرائيل، لكن أميركا أولى بالمناصرة على ما يبدو. أما شارل مالك (الذي اكتشفنا أنه كان صديقاً سريّاً لأبا إيبان عندما كان مالك يدافع، رسميّاً فقط، عن المصالح العربيّة في الأمم المتحدة) فهو دائماً يريد أن يظهر مظهر العارف بمصالح الغرب، وقد شدّد عام 1951 على أن «هناك أموراً مهمّة» يريد أن يبحثها مع الرئيس الأميركي ووزير الخارجيّةوتبحث في الأرشيف الأميركي عن لبنان فتكتشف أن من كان يودّ أن يتقرّب أو أن يطلب القرب، من دون «شربات» من الحكومة الأميركيّة، كان يعرض خدماته لإقامة سلام مع إسرائيل ولتجميع اللاجئين الفلسطينيّين أو طردهم من لبنان. تجد وثيقة (إن.إن.دي.871044) من آذار، 1952، بناءً على حديث دبلوماسي أميركي مع هنري فرعون (واحد من مهندسي الميثاق على ما قيل لنا في مقاعد الكذب الوطني الدراسيّة) يشدّد فيه على «ضرورة الحفاظ على النفوذ المسيحي» في لبنان، لأن لبنان على قول السيّد فرعون ليس آسيويّاً بل هو متوسّطي «ويتعاطف مع الحكومات الغربيّة». وحذّر من وقوع لبنان تحت «السيطرة الإسلاميّة» التي ستمثّل خطراً على المصالح الغربيّة التي يحرص الأخ عليها. وطالب دول الغرب بدعم «لبنان مسيحي» لضمان مصالحها. وأعلن فرعون في السرّ معارضته ميثاق الدفاع العربي المشترك لأنه ينطوي على محاولة المسلمين «السيطرة» على البلاد، كما أسرّ لهم. وأضف أن العدو الحقيقي هو الشيوعيّة أي ليس إسرائيل.
أما سامي الصلح فقد كان حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة، وقد أطرت الحكومة الأميركيّة في وثائق الأرشيف شخصه لأنه لم يكن كغيره من زعماء المسلمين من الذين «يلوّحون بعلم فلسطين» أمام العامّة حسب وصف وثيقة من 18 أيلول، 1954 (780إي.\9ــــ2954 00). وكعادة الزعماء العرب في السرّ، تطوّع الصلح لتحسين العلاقة بين العرب وإسرائيل لكنه صارح الدبلوماسي الأميركي بعجزه عن توقيع معاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل، لأن الملك عبد الله اغتيل (أي إن تمنّعه ينبع من توخّي السلامة الشخصيّة فقط). وطالب أميركا بعدم إثارة مشاعر العرب. والطريف في نص اللقاء بين الصلح والسفير ريموند هير أن جزءاً كبيراً من الحديث كُرّس لموضوع الأمن الداخلي، إذ إن هير أبدى قلقه من عدم جهوزية قوى الأمن الداخلي في التصدّي للمتظاهرين وقمعهم في الجامعة الأميركيّة في بيروت، كمثال. وقد أبدى الدبلوماسي الحنون كامل استعداد بلاده لتدريب قوى الأمن من أجل زيادة الفعاليّة في قمع المتظاهرين. (طبعاً، لا علاقة بين الإشراف الأميركي الحالي على تدريب قوى الأمن الداخلي وعرض التدريب آنذاك. فسيّان أمر سامي الصلح وأمر فؤاد السنيورة الذي كما يكرِّر دائماً لا يحتاج إلى فحص دم في قوميّته العربيّة). ولم ينس الصلح، مثله مثل الزعماء اللبنانيّين الذين كانوا يلتقون دبلوماسيّين أميركيّين، أن يحذِّر من الخطر الشيوعي وأن يطالب بفعل شيء «ملموس» لمحاربة الشيوعيّة.
ميشال شيحا اقترح على السفارة الأميركيّة وضع كرّاس مبسَّط ضدّ الشيوعيّة وتكليف شارل مالك مهمّة كتابته
أما القصّة (الخبريّة) الطريفة والمُخزية فهي قصّة المحامي حسني أبو ظهر. تروي وثيقة (780إي \8ــــ3051 00) من عام 1951 تفاصيل اللقاء بين المستشار السياسي للسفارة الأميركيّة في بيروت والسياسي الطموح الذي تنطّح لإخبار الدبلوماسي الأميركي بأن قطاعاً من الرأي العام السنّي في لبنان بات مستعدّاً لعقد اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل. وتطوّع أبو ظهر لقيادة السنّة من أجل التوصّل لسلام بين لبنان وإسرائيل، طبعاً مقابل دعم من الحكومة الأميركيّة. ولم ينخدع الدبلوماسي الأميركي بكلامه وعلّق في مذكّرته الرسميّة بالقول إن هناك بعض القبول للسلام بين لبنان وإسرائيل عند بعض المسيحيّين، لكن مزاعم أبو ظهر يجب أن تُدرس بعين الريبة. وأضاف الدبلوماسي أن شعبيّة أبو ظهر «محدودة جداً» وأنه يرغب بالحصول على دعم في ترشيح للنيابة في الانتخابات المقبلة. لكن السيد أبو ظهر لم يأت وحيداً، بل إن الذي اصطحبه هو الدكتور ن. صفير (لم تشر الوثيقة إلى اسمه الأول إلا بالحرف الأول) الذي عرّف عن نفسه في السفارة الأميركيّة بأنه الناطق باسم البطريرك الماروني. وأضاف أن فهمه للسياسة الأميركيّة قاده إلى خلاصة مفادها أن هدف الدبلوماسيّة الأميركيّة في الشرق الأدنى هو عقد سلام بين العرب واليهود. وعرّف صفير هذا عن أبو ظهر بالقول إنه محام معروف ويستطيع أن يقود هؤلاء السنّة الذين باتوا مستعدّين لعقد اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل. وأراد أبو ظهر أن يترشّح في الانتخابات الفرعيّة للمقعد الذي شغر بعد اغتيال رياض الصلح. وصارحهم أبو ظهر بأنه لا يملك الرسم الذي يفرضه أحمد الأسعد على مرشّحيه. ووعدهم بأنه بعد نجاحه في الانتخابات سيصبح رئيساً للوزراء وسيتوصّل إلى عقد اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل. وطلب من السفارة الأميركيّة أن تحثّ بشارة الخوري على أن يطلب من أحمد الأسعد دعمه. وختم الدبلوماسي الأميركي مذكّرته الرسميّة بالقول: «حسني أبو ظهر محام استغلّ السياسة في الماضي ليصبح معروفاً أكثر. وسعيه مع البعثة (الأميركيّة) مثال جيّد عن الوسائل الملتوية التي يلجأ إليها اللبنانيّون للحصول على الدعم الأميركي».
وفي تموز 1951، تقدّم جورج حيمري (عرّفته الوثيقة (783إي.00 \8651) بـ«مدير حكومة رئيس الجمهوريّة» والمُولج بشوؤن اللاجئين الفلسطينيّين) إلى وكالة غوث اللاجئين بطلب لنقل 9،729 لاجئاً من مخيّمات بيروت ومحيطها إلى أماكن أخرى في لبنان لأسباب «أمنيّة». لكن مدير الوكالة عبّر عن قلقه من الطلب لأنه في رأيه يضرّ بالأمن أكثر مما يفيد (الأوروبي هو دائماً أكثر قدرة على تحديد مصالح الشعوب المتخلّفة، فاتّعظوا). وخاف المدير إثارة غضب اللاجئين من طلب النقل. ونفى المدير جون بلانفورد أن يكون اللاجئون قد لعبوا دوراً أساسيّاً في «أعمال الشغب» التي تلت اغتيال الملك عبد الله ورياض الصلح. وعبّر بلانفورد عن قلقه من إثارة كل اللاجئين بينما تسعى الوكالة لحلّ أساسي «لمشكلة اللاجئين». (لو أن الوثيقة تطلعنا على مضمون هذا الحلّ الذي نشك في أنه كان يتضمّن تحرير فلسطين). عندها وعد المسؤولون اللبنانيّون بألا ينقلوا أكثر من ثلث اللاجئين من بيروت، لكن بلانفورد عاجلهم بالقول إن المسألة ليست في العدد بل في النقل القسري ذاته. وطلبت الحكومة اللبنانيّة حلولاً بديلة لتعزيز أمنها. واستشف بلانفورد أن الحكومة اللبنانيّة بشخص حيمري تحاول أن تتنصّل من مسؤوليّة إجراءات تحاول فرضها إذا أدّت إلى اضطرابات. وحذّرهم بلانفورد بعدما استمع إلى بعض الاقتراحات (عن فرض حمل بطاقات خاصّة وإخضاع المخيّمات لـ«إجراءات سيطرة أقوى») من خلق شروط تذكّر بمعسكرات الاعتقال النازيّةأما ميشال شيحا فقد عبّر عن آرائه في لقاء مع المستشار السياسي في السفارة الأميركيّة. وكالعادة، فإن السفارة تهتم بالموقف من إسرائيل، وكالعادة، فإن اللبنانيّين يتطوّعون بآرائهم عن إسرائيل لعلمهم بالاهتمام الأميركي (كما عبّر عن ذلك ن. صفير أعلاه). وقال شيحا إن لبنان يرغب في «العيش والتجارة مع دولة يهوديّة معتدلة ومتزنة»، لكن وتيرة الهجرة إلى إسرائيل أقنعته وأقنعت غيره من اللبنانيّين بأن إسرائيل «إما أن تتوسّع وإما أن تنفجر». وأضاف أن «اليهود أذكياء» لكنهم يريدون التوسّع «ويجب التحضير للأسوأ». وأضاف أن لبنان سيقف مع سوريا وباقي الدول العربيّة في حال المواجهة. لكن شيحا، مثله مثل كل السياسيّين اللبنانيّين الذين كانوا يتودّدون إلى الحكومة الأميركيّة، قدّم اقتراحاته التفصيليّة (في لقاء ومذكّرة أخرى رقم 733إي .00\2ــــ2354) لمكافحة الشيوعيّة، فتجده يقترح نشر كرّاس مكتوب «بعربيّة مبسّطة جدّاً» كي تفهمها الطبقات «الدنيا». ويقول إن الكرّاس يجب أن يتضمن استشهادات مباشرة من ماركس ولينين لإثبات كون الاتحاد السوفياتي لا يريد السلام بل الثورة العالميّة. كما أنه اقترح تضمين الكرّاس «حيّويّة» الفكرة الغربيّة عن «عزّة الفرد»، وتوزيعه بالملايين من النسخ، و«إطعامه» للناس عبر «وسائلنا» الإعلاميّة المهودة بالاشتراك مع مجموعات دينيّة لم يحدِّدها. كما أنه ارتأى أن شارل مالك هو أفضل من يستطيع أن يكتب الكرّاس لفهمه «النفسيّة العربيّة».
هناك الكثير مما لا نعرف عن خفايا الخطط الرسميّة ضد الفلسطينيّين في لبنان. وهناك دائماً إصرار على التعاون بين أميركا وحلفائها من العرب ضد قضيّة شعب فلسطين. والشعب الفلسطيني في مخيمات اللاجئين في لبنان تعاملت معه الدولة والجيش على امتداد التاريخ كقطعان من الغنم. فوجئ المناضل شفيق الحوت عندما ذهب إلى مقابلة فؤاد شهاب ليشكو التضييق الخانق على الشعب الفلسطيني، حين وجد شهاب يعترف له بأن هذا جزء من سياسة مقصودة. لم تتوقّع الدولة اللبنانيّة (وحليفها الأميركي) أن يثور شعب فلسطين في لبنان. وخطط تهجير الفلسطينيّين في لبنان وقمعهم وقتلهم لم تتوقّف منذ 1948. وقد شنّت الدولة (وميليشيات كتائبيّة ومن حركة أمل) حروباً وحشيّة على المخيّمات، وذلك بعد فشل الجيش اللبناني عام 1973 في المهمّة التي ربما كانت موكلة إليه لتكرار تجربة أيلول الأسود. تغيّر المخطّط مذّاك. بشير الجميّل، أسوأ لبناني على الإطلاق، كان يصرّ على طرد الفلسطينيّين من لبنان. لم يكن له ما أراد. وقد كشف فؤاد مطر («بالغلط» على الأرجح) عن مخطّط لرفيق الحريري (ربما تكشف عنه وثيقة أميركيّة بعد عقود طويلة) لنقل اللاجئين الفلسطينيّين إلى مجمّعات في مزارع شبعا وذلك لإمرار السلام بين لبنان وإسرائيل («الشرق الأوسط»، 15 حزيران 2008 اختفت المقالة من قسم البحث الأرشيفي لموقع الجريدة المذكورة).
ولو تسنّى لنا اليوم أن نستمع إلى محادثات المسؤولين اللبنانيّين مع دبلوماسيّين أميركيّين، فماذا كنا سنكتشف؟ الذين كانوا يتطوّعون لمساعدة أميركا بالأمس في مكافحة الشيوعيّة يتطوّعون اليوم، على الأرجح، لمساعدة أميركا في مكافحة ما تسمّيه هي «الإرهاب». وحسني أبو ظهر لم يصبح رئيساً للحكومة، لكن شيعيّاً لبنانيّاً يشبهه: زار أميركا قبل الانتخابات الأخيرة طالباً دعماً، وواعداً بالقضاء على حزب الله وقيادة الشيعة في لبنان لعقد اتفاق بين لبنان وإسرائيل (كما وعدهم أحمد الشلبي بقيادة جماهير العراق والتوصّل إلى اتفاق سلام بين العراق وإسرائيل إذا ساعدته أميركا في اجتياحه لقلوب الشعب العراقي).
الشعب الفلسطيني في لبنان عبء ثقيل يتعامل معه أهل السياسة كأنه زرع فاسد. وعباس زكي يجول على قادة لبنان في زيارة مقزِّزة في بشاعتها. صرّح بعد لقاء مع سمير جعجع أن الأخير «يحب» فلسطين. وصرّح بعد لقائه مع نبيه برّي أنه يترك الشعب الفلسطيني في عهدته: لم يسمع عبّاس زكي بحرب المخيّمات الوحشيّة التي شنّتها حركة أمل على المخيّمات. ثم عاد وقال إنه يترك الشعب الفلسطيني في عهدة البطريرك الماروني الذي لم تبدر منه أية عاطفة نحو فلسطين، أو أي عداء لإسرائيل. ماذا تفعل إذا كانت القيادة الفلسطينيّة متوافقة مع الإدارة الأميركيّة ومع قسم من الحكومة اللبنانيّة لقمع (وحتى طرد) اللاجئين؟ لكن للبنان مشاغله وأولويّاته. فهو يسعى للحصول على مجد ما من خلال صحن الحمّص العملاق، الذي دخل إلى سجلّ «غينيس» شغل اللبنانيّين الشاغل هذه الأيّام، ربما لأن صحن الحمّص العملاق بات يمثّل صلب الاستراتيجيا الدفاعيّة لفريق 14 آذار.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)