عصام العريان *لا يمكن هذه السطور القليلة المتعجلة أن تفي أخي الحبيب د. عبد المنعم أبو الفتوح حقه، ولا مذكراته الضنينة القصيرة التي نشرتها جريدة «الشروق» المصرية اليومية يمكنها ذلك، ولكنه نداء الواجب أو لعله أول الغيث قطرة قد يتلوها انهمار.
من الصعب تحقيق اكتمال صورة مرحلة أثْرت الحياة الفكرية والسياسية والإسلامية في مصر والعالم، وأثّرت فيها إلى حد كبير إلى يومنا هذا، أقصد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، التي تناولهما عبد المنعم أبو الفتوح وتحدث عن ذكرياته فيهما. ولكنهما كانا من الأهمية بمكان بحيث أدعو الجميع إلى الإسهام في رسم ملامح صورة مصر وصورة الحركة الإسلامية، بما لديهم من معلومات أو ذكريات أو تعليقات.
والمذكرات الشخصية من أهم الأوراق والروافد التاريخية التي تعين على رسم صورة مرحلة ما أو جيل ما من الفاعلين السياسيين، شريطة أن تكتمل من أكثر من مصدر، وألا تقتصر على رؤية واحدة لشخصية واحدة مهما كان أثرها. ولأن د. عبد المنعم كان مشاركاً وفاعلاً أصلياً في معظم أحداث العقود الثلاثة أو الأربعة المنصرمة للحركة الإسلامية المعاصرة، حق له أن يتحدث كشاهد على أحداث تلك الفترة الغنية بالأحداث والشخصيات. ولقد شكت الحركة الإسلامية كثيراً من قلة الشاهدين على الأحداث، الذين أقدموا على تسجيل شهاداتهم خشية وقوع أوراقهم في قبضة أجهزة الأمن التي ما فتئت تطارد الحركيين الإسلاميين وتعرّض هؤلاء للتحقيقات أمام النيابة التي تريد تفسيراً لكل كلمة وتوضيحاً لكل موقف، وتبحث عن أدلة لإثبات الاتهامات التي قدمتها أجهزة الأمن إليها، مما أدى إلى قلة توثيق الشهادات الشخصية بصورة ملحوظة، في أوقات تضعف فيها الذاكرة وتختفي فيها الأوراق والوثائق التي تثبت دقة الموقف أو صحة الكلام.
ولعل ضعف الإحساس بأهمية توثيق الأحداث أو الإدلاء بالشهادات الشخصية، وأحياناً دافع الإخلاص لله رب العالمين، هما اللذان يدفعان كثيرين إلى عدم ذكر مواقفهم الدعوية وآرائهم الشخصية. وعدم الاحتفاظ بأوراق شخصية من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك.
وأود هنا أن أشير إلى أهمية التوثيق في مسيرة الحركات الإسلامية، وكذلك كتابة المذكرات الشخصية التي تعبر في النهاية عن مواقف الأفراد في الأحداث المختلفة وآرائهم الشخصية، وهي مهمة أيضاً لأن في بلادنا ما زال للأشخاص القياديين أثر كبير في صنع الأحداث، وتشكيلها أثناء صنع القرارات، أو حتى عند التنفيذ الذي غالباً ما يصبغ بالطبائع الشخصية.
والتعليق على المذكرات السريعة للصديق النبيل الأسير، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح هو واجب على كل من عاصر تلك الأحداث، قبل أن نصل إلى الموقف نفسه الذي نشكو فيه الآن من قلة الشهداء على عصور سابقة أو ضعف ذاكرة الأحياء منهم، أو عدم القدرة على حسم نقاط ومسائل تشهد تضارباً في الآراء في حياة هؤلاء، بتحفيز الذاكرة وجمع أجزاء الصورة المبعثرة أو التدقيق في المرويات...
هناك من يتصور أنه يجب أن تكون للحركة الإسلامية رواية واحدة للأحداث وأن تعدد الروايات قد يسبب بلبلة العقول أو شخصنة المواقف. وفي الحقيقة، أن ذلك متعذر جداً، ولن يؤدي إلى الهدف المطلوب. وأن المؤرخين بعد سنوات طويلة لن يقبلوا بما يسمى «الرواية الرسمية»، وسيبحثون عن الروايات الأخرى لاستجلاء المواقف والبحث عما يظنونه «الحقيقة». ولقد اخترت في هذا التعليق السريع الموجز أن أركز على قضية الخيارات التي كانت متاحة للشباب المسلم مع مطلع السبعينيات للانخراط في الحركة الإسلامية، ثم النظر بعد سنوات تقارب الأربعين، في المآلات التي انتهت إليها تلك الخيارات البعيدة، وعن صدق الاختيار الذي اختارته مجموعة من الشباب الغض، كنت مع أخي د. عبد المنعم من بينهم، وعن ثبات هذا الاختيار والبناء عليه للمستقبل طوال هذه العقود.
هناك من يتصور أنه يجب أن تكون للحركة الإسلامية رواية واحدة للأحداث
وقبل الولوج إلى هذه النقطة، أحب أن أصحّح معلومة وأن أوضح موقفاً: لقد كان فضيلة الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد عضواً في مكتب الإرشاد الذي حرصت قيادته على أن يكون من بينها دائماً أحد العلماء أو أكثر من الأزهريين. وقد غادر الأستاذ عبد الستار سعيد المكتب مستقيلاً في حادثة نادرة بالفعل، ولم يكن السبب هو موقفه الفكري من مسألة «ترشيح المرأة» لعضوية البرلمان، رغم تمسكه برفض هذا الترشيح حتى يومنا هذا، بل كان انسحابه أو استقالته من المكتب بعد انتهاء انتخابات 1987 وفوز الإخوان بـ37 مقعداً في إطار التحالف مع حزبي العمل والأحرار، وبروز مسألة تجديد ولاية الرئيس محمد حسني مبارك مرة أخرى، واتفاق الهيئة البرلمانية للتحالف على التصويت لمصلحة ترشيح الرئيس الذي كان دستورياً، يرشحه أكثر من ثلث أعضاء مجلس الشعب ويتطلب إقراره ثلثي الأعضاء.
وعارض الشيخ هذا الموقف لأسباب متعددة، هو الأقدر على شرحها الآن. وعندما صوت مكتب الإرشاد بأغلبية كبيرة لمصلحة الترشيح والانتخاب، في رسالة سياسية وفقهية وحركية ودعوية، ارتضى الشيخ لنفسه الاستقالة حتى لا يتحمل ــــ من وجهة نظره ــــ مسؤولية أمام الله تعالى عن هذا الاختيار، رغم أن الإخوان أرادوا بذلك ترسيخ مفاهيم كانت محل جدل شديد داخل السجون، وحُسمت تماماً في كتاب «دعاة لا قضاة» حول «الحاكم» وموقف الإخوان منه.
القضية الأخرى الهامة هي أن الإخوان حرصوا تماماً على ترسيخ معنى عام في نفوسنا، وهو أن انضمامنا إلى الإخوان كان فردياً، بينما حرصنا نحن من جانبنا على الانضمام كجماعة. وحرص الإخوان له ما يبرره، وهم الرواد في العمل التنظيمي الحركي، ونحن ما زلنا هواة مبتدئين. وكان للإخوان في ذلك الوقت تنظيم حقيقي خرج من السجون على فترات بدءاً من عام 1971 وحتى عام 1975 حين اكتمل.
كان التنظيم عبارة عن مجموعات قليلة من الشباب يلتفون حول القيادات والرموز التي خرجت تباعاً من السجون، بينما كان لطلاب الجامعات تنظيم هلامي واسع يجمع كل أطياف الشباب من كل الاتجاهات، ويلتف عاطفياً وحركياً حول قيادات جامعة القاهرة التي كنا أسسنا فيها عملاً متميزاً. وقد شجع تنظيم الإخوان من كل المحافظات الشباب الذي التقى بهم على العمل معنا، وبذلك نُقلت خلال تلك الفترة من 1975 وحتى 1981 الدعوة والحركة إلى جيل جديد امتزج مع القيادات التي خرجت من السجون منهكة، ولكنها دؤوبة وحريصة على العمل وتوجيه الشباب إلى الوجهة الصحيحة، بعيداً عن مسارات العنف والتكفير والانعزال.
كانت الخيارات أمامنا محدودة، أفرزتها تجربة السجون في الحقبة الناصرية:
1 ــــ تيار التكفير والانعزال عن المجتمع والسعي إلى الهجرة بعيداً، تمهيداً للعودة من جديد لفتح المجتمع، وهو ما عرف بـ«التكفير والهجرة» أو «جماعة المسلمين».
2 ــــ تيار العنف والتغيير بالقوة، سواء بالعمل الانقلابي أو حرب العصابات، بهدف الاستيلاء على الحكم بالقوة والتغيير الفوقي وفرض النموذج الإسلامي بسطوة السلطة.
3 ــــ تيار التوقف في الحكم على الناس والمجتمع، مع تكفير الحاكم والحكومة، والانعزال عن تيار العمل العام والمشاركة النشيطة في المجتمع والانشغال بهمومه وبناء طليعة مؤمنة تنتظر الوقت المناسب لاتخاذ الموقف المناسب للتغيير، وهو ما عرف بـ«التوقف والتبين» أو «القطبيين» نسبة إلى أفكار الشهيد «سيد قطب» أو فهم بعض تلاميذه لأفكاره.
4 ــــ تيار الأخذ بالعلوم الإسلامية على الطريقة السلفية والتعمق فيها والبحث في الأدلة الشرعية وترك العمل السياسي.
5 ــــ تيار الإخوان المسلمين الذي يرفض كل تلك الخيارات، والذي حدد قواطعه المفصلية مع تلك التيارات كتاب «دعاة لا قضاة»، وأشرف عليه المرشد الممتحن الصابر حسن الهضيبي، وعرضه على الإخوان في السجون، فمن قبله منهم خرج من السجون أخاً مسلماً عضواً في الإخوان، ومن رفضه أو رفض بعض قواعده لم يعد من الإخوان. وأهم ملامح ذلك التيار الذي أعاد الإخوان إلى قواعد العمل الإسلامي كما أرساها الإمام البنا رحمه الله هي:
ــــ رفض العنف تماماً كوسيلة للتغيير الحاسم أو وسيلة لتغيير المنكرات في المجتمع.
ــــ رفض الانعزال عن المجتمع أو تكفيره، والسعى إلى الانخراط فيه وتغييره بالحكمة والموعظة الحسنة، وقبول إسلام الناس على ظواهرهم.
ــــ المشاركة النشطة في العمل العام في اتحادات الطلاب ثم النقابات المهنية والعمالية ثم البرلمان والمجالس النيابية، وأحياناً الحكومات الائتلافية، لدرء أخطار عظيمة تهدد الأوطان.
ــــ الأخذ من العلوم الشرعية بالقدر المناسب لكل مسلم واحترام التخصص والمتخصصين من متخرجي الجامعات الإسلامية، كالأزهر وغيره، وعدم الاستغراق في البحوث الشرعية والاهتمام بالتخصصات الحياتية كالطب والعلوم والهندسة...
اخترنا كشباب خيار الانضمام إلى «الإخوان المسلمين»، اقتناعاً بصواب المنهج وحكمة القيادات وقدرتها على التضحية والعطاء، وسلمنا لهم أنفسنا رغم إغراءات انقياد مجموعات عريضة من الشباب في الجامعات لقيادتنا لهم، وعدم معرفتهم بانضمامنا للإخوان. وشجعنا آلافاً من الشباب على الانخراط في الإخوان، وكان ذلك قراراً صائباً حمى الآلاف من التوجه إلى مسارات العنف أو التكفير وصان الجسد الأساسي للحركة الإسلامية.
واليوم، عندما ينظر الفرد منا إلى هذه المسيرة الطويلة، يحمد الله تعالى أنْ هدانا كأفراد وكمجموعة لهذا الخيار السليم. كان هذا الحمد لله يتكرر كثيراً على قلبي ولساني عندما كنت أضع رأسي على وسادة خشنة خلف الأسوار لمدة خمس سنوات بعد لقاءاتي السريعة في عربات الترحيل للامتحانات أو المستشفيات مع قيادات الصعيد الذين عاصرناهم وأحببناهم خلال النصف الثاني من السبعينيات، ثم افترقت بنا السبل عندما رفضوا صراحة الانضمام إلى الإخوان في لقاء لعلهم يتذكرونه في مسجد «عباد الرحمن» في مدينة المنيا، ثم راجعوا أنفسهم بشجاعة واعترفوا بخطئهم التاريخي وسلموا بأن اختياراتهم الفقهية كانت متسرعة ومتعجلة، ولم تبنَ على دراسة علمية منهجية ولا تستند إلى آراء لعلماء متخصصين. فالحمد لله أولاً وآخراً، وأسأله تعالى أن يختم لنا بخير وأن يوفق الإخوان لما يحبه ويرضاه، وأن يعجل بالفرج لأخي عبد المنعم أبو الفتوح وجميع المظلومين خلف الأسوار، وأن يمنح مصر مصالحة وطنية شاملة يخرج منها كل من عانى طوال هذه السنوات الثلاثين العصيبة من اختيارات خاطئة. فقد راجع الجميع أنفسهم، وهذه سنة الحياة.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين بمصر