سلامة كيلة *يتكرر البحث في مسألة الدولة الواحدة في فلسطين، وقد تشكلت مجموعات متعددة لمتابعة هذه المسألة، وصدرت بيانات عديدة آخرها «إعلان بوسطن» (آذار 2009)، والندوة في مدى الكرمل (تموز 2009). وهي تطرح من زوايا مختلفة، وتحمل أكثر من اختلاف، حيث بات يتّضح فشل حل الدولتين، وبات يتّسع الميل للتأكيد أن الحل هو في الدولة الواحدة.
ورغم صحة الاستنتاج بأن حل الدولتين لا أفق له، فإن هناك ضرورة لتناول حل الدولة الواحدة. إن ما وصل إليه الوضع الفلسطيني يفرض البحث عن حل بعيداً عن الأوهام التي كانت في أساس كل النشاط طيلة أكثر من ثلاثة عقود. ولهذا من الضروري التدقيق في الحل المطروح، ليس انطلاقاً من النفي المطلق له، بل من أجل وضع استراتيجية توصل إلى تحقيقه. إنّ حل الدولة الواحدة ينطلق من سمة وحيدة للدولة الصهيونية، هي كونها كياناً استيطانياً. وهذا ما يستجلب المقارنة المتكررة مع جنوب أفريقيا ونظام الأبارتهايد. رغم اختلاف أساسي يتمثل في أن جنوب أفريقيا حكمتها أقلية بيضاء، واستُغلّ الأفارقة في العمل في مزارع هذه الأقلية، بينما تحوّل سكان البلد الأصليين إلى أقلية في فلسطين. ورغم استغلال العمل الفلسطيني، إلا أن الدولة الصهيونية تميل إلى الطرد، لكن الاختلاف الأعمق ليس هنا.
من هذه المقارنة، يطرح حل الدولة الواحدة، وانطلاقاً من هذه السمة، لتصبح المسألة هي مسألة حق المواطنة وعودة اللاجئين، وليكون الكيان الاستيطاني «دولة لكل مواطنيها». إن التركيز على الطابع الاستيطاني يفرض التعايش المشترك، لكن بمساواة في دولة ديموقراطية علمانية. دولة لا تميّز على أساس الدين أو تمارس العنصرية، ومن ثم يجري مدّ الفكرة إلى طرحها كدولة ثنائية القومية.
وربما يكون طرح هذه المسائل مفيداً في الصراع اليومي، لكن المسألة التي يجب أن تناقش هنا تتحدّد في فهم طبيعة الدولة الصهيونية، هل هي كيان استيطاني ونقطة؟ هل تميّز على أساس الدين، أو تمارس العنصرية فحسب؟
هذه سمات أساسية لهذا الكيان، وهي جوهرية دون شك، وفي هذا تتشابه مع كل الكيانات الاستيطانية. لكن هناك كيانات استيطانية قامت من أجل التخلص من الفيض السكاني في أوروبا، ومن أجل الذهب، مثل الأميركتين وأوستراليا. وبالتالي فقد شكل المهاجرون المجتمعات الجديدة التي تحوّلت إلى «أمم». وأيضاً قامت كيانات استيطانية من أجل استغلال الشعوب، مثل جنوب أفريقيا والجزائر. أما الدولة الصهيونية فقد وُضعت في سياق آخر، رغم أنها قامت على أساس الاستيطان. وهذا يفرض التحديد الصحيح لطبيعتها، فهذه سمة من جملة سمات يجب تلمّسها لطبيعة هذه الدولة، وربما كانت (وملحقاتها المتعلقة بالتمييز الديني والعنصرية) هي نتاج السمة الأساس التي فرضت نشوءها. بمعنى أن كل هذه السمات نشأت على ضوء الضرورة التي فرضت إقامة المشروع الصهيوني في فلسطين.
لقد كان ممكناً هجرة اليهود الذين كانوا يعتبرون مشكلة أوروبية، إلى أميركا، وهذا ميل حكم الكثير منهم، وبالتالي يصبح السؤال هو: لماذا كانت الضرورة تفرض جلبهم إلى فلسطين؟ فقد استخدم الدين، ولا أظن بأن الرأسمالية كانت معنية بالدين. وكان طرح «حق اليهود في أرض إسرائيل» هو المبرر للسيطرة على فلسطين، ولم تكن هذه الأسطورة تنطلي على الرأسمالية ذاتها، التي كانت تتخلص من كل دين. كما لم يكن قادة الحركة الصهيونية من المتدينين، بل كانوا علمانيين.
كان هذا الوضع يشير إلى أن المسألة تتعلق بمشروع إمبريالي، وهذه هي السمة الأساس في تكوين الدولة الصهيونية، التي تأسست على ضوئها كل السمات الأخرى. إن جلب اليهود إلى فلسطين لم يكن لسبب ديني، وإن تغطى بذلك، بل كان لهدف سياسي يخص الرأسمالية ذاتها. لهذا نشأ بأموال الرأسمالية، وبالدعم المستمر منها، وأصلاً بتوجه قررته هي قبل أن يفكر أي من اليهود الأوروبيين بهذا المشروع، وقبل أن تحتضنه البورجوازية اليهودية.
إنّ السمة الأهم والأساس في طبيعة الدولة الصهيونية هي أن هذا الكيان هو مشروع إمبريالي. فقد تأسس بقرار إمبريالي، وبدعم مالي إمبريالي، لكي يكون مرتكزاً للسيطرة على الوطن العربي. هذا هو السبب الذي جعل الرأسمالية تدفع، وما تزال، مليارات الدولارات، التي هي أساس وجودها، حيث إن القدرة الاقتصادية لا توازي حجم المشروع الذي يؤسس جيشاً لمواجهة كل المنطقة.
انطلاقاً من ذلك، هل حل الدولة الواحدة هو حل مناسب؟ أظنّ بأنه مجزوء، رغم أن الاستيطان قد طال فلسطين، والتهجير والسحق قد طالا الفلسطينيين. وهذه كلها مسائل مهمة ويجب أن يجري تناولها، وتأكيد إنهاء الدولة الصهيونية وعودة اللاجئين مسألة حاسمة. لكن تغييب الطابع الاستعماري للدولة الصهيونية، لا يقود إلى وضع هذا الحل في سياق صحيح، إذ إن هذا الوضع لا يجعل «النضال السلمي»، ولا السعي من أجل «الحقوق المدنية» يوصلان إلى تحقيق هذا الحل. لأن مسألة وجود الدولة الصهيونية لا يتوقف على الاستيطان بحد ذاته، ولا على التمييز أو العنصرية، فكما أشرنا إلى أن الدور المعطى لهذا الكيان هو في أساس وجوده. لهذا فهو في تصادم مستمر مع كل المنطقة، وتطوير وضعه العسكري أساسي في استمرار هذا الوجود وهذا الدور. وهو نتيجة هذا الشكل من الوجود خاضع لـ«الممول» الذي هو الرأسمالية. والمدقق في مدى المساهمة التي تأتي، بشكل مباشر أو غير مباشر، من هذه الرأسمالية في الناتج «القومي»، يعرف بأن الربط بين هذا الكيان والرأسمالية ليس شكلياً أو يمكن الفكاك منه. وهنا، فإن التحوّل الداخلي (أي في تكوين الكيان) ليس حراً، بل يخضع لمصالح الرأسمالية ذاتها. وبهذا لن يكون «النضال» من أجل المساواة في إطار الدولة الواحدة الديموقراطية سوى تفعيل ضغوط وتسعير تناقضات ليس أكثر. فالأساس في الصراع أنه صراع عربي في مواجهة السيطرة الإمبريالية وأداتها الدولة الصهيونية، لأن أساس تشكيل هذه الدولة هو فرض السيطرة. وهو الأمر الذي يجعل دورها أوسع من فلسطين، ويتجدد وجودها وفق هذا الدور. وهذا يعني أن الصراع معها هو صراع مع الإمبريالية بالأساس، وأن الحل ينطلق من نتيجة هذا الصراع، ما يجعل الأولوية هي لتغيير الوضع العربي، أي تغيير النظم العربية المتوافقة مع المشروع الإمبريالي كونها تمثل فئات كومبرادورية. ولا بد من أن نلحظ أن أي حل يطرح فلسطينياً سيكون في كل الأحوال حلاً وهمياً خارج هذا الإطار، من حل الدولتين إلى حل الدولة الواحدة إلى «الكفاح المسلح».
* كاتب عربي