خليل صويلح
المشهد مكرَّر كثيراً: شاب مغرم بالموسيقى، يوفر مبلغاً لشراء عود، فيحطم الأب الآلة الشريرة. لكنّ سهيل عرفة لم ييأس. ابتاع عوداً آخر، وحطَّمه الأب مرةً أخرى. في دكانه الصغير لتصليح أجهزة الراديو المعطّلة، في شارع السنجقدار في دمشق، يستمع إلى أغانٍ كانت تبثّها الإذاعات «كنتُ مغرماً بصوت فريد الأطرش» يقول. من دكانه ذلك، المقابل لمجلة «الدنيا» لصاحبها عبد الغني العطري، كان يراقب الزوار من فنّانين وأدباء وصحافيين، فيغامر في الدخول. هناك سيتعرّف إلى صحافي فني مرموق هو عدنان مراد، فيفتح له الأخير أبواب «إذاعة دمشق».
عبر أثير الإذاعة الرسميّة، قدّم أول ألحانه لمردد مغمور في الكورس هو فهد بلان، وكانت أغنية «يا بطل الأحرار» في تمجيد تجربة الوحدة السورية المصرية وبطلها عبد الناصر. بصحبة صديقه الصحافي، تعرّف في كواليس أحد الملاهي الليلية إلى نجاح سلام وأسمعها ثلاثةً من ألحانه، فوافقت عليها وسجّلا معاً أغنية «رمانا بحبه».
يتذكّر سهيل عرفة العصر الذهبي لـ«إذاعة دمشق»، وكيف كانت قبلة الفنانين العرب. «تعرّفت إلى حليم الرومي، ودعاني إلى لبنان لأُصَنّف ملحِّناً من الدرجة الأولى، في «إذاعة لبنان»». لكنّ شهرة الموسيقي الشاب لم تلمع إلا بعد تلحينه أغنية صباح «ع البساطة» في فيلم «أهلاً بالحب»(1965). بعدها، صارت ألحانه قاسماً مشتركاً لمعظم أفلام المرحلة. لحّن لشادية «يا طيرة طيري يا حمامة» المقتبسة من لحن قديم لأبي خليل القباني، و«سكابا يا دموع العين» لشريفة فاضل، و«يا غزالاً عني أبعدوك» لنجاة الصغيرة، و«الله لركب بالصاروخ» لسميرة توفيق، و«يا مال الشام» لصباح فخري. «كان هاجسي تأصيل الأغنية السورية، وتأكيد هويتها». هكذا طوّر عرفة جانباً من التراث الغنائي السوري القديم، واستمر في تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام. بعد هزيمة حزيران (يونيو) 67 عاش إحباطاً طويلاً، قبل أن يعود إلى تلحين قصيدة محمود درويش «نحن بخير طمنونا عنكم» في فيلم «نحن بخير» لفيصل الياسري، وموسيقى فيلم «شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب» لقيس الزبيدي، و«الفهد» لنبيل المالح، إلى مسلسلات تلفزيونية كثيرة أبرزها «سيرة بني هلال»، و«ساري» لعلاء الدين كوكش، و«أيام شاميّة» لبسام الملا.
أسهمت ألحانه في انتشار الأغنية السورية عربياً، في الستينيات والسبعينيات، وكانت أغنية «من قاسيون أطلّ يا وطني» بصوت دلال الشمالي، من أبرز الأغاني الوطنية حينها. لكنّ تغيّر المناخ الفني، وإهمال كنوز الأغنية السورية في أرشيف الإذاعة والتلفزيون، أبعدها عن ذائقة اليوم. يرى عرفة أنّ الحل هو إصدار «قانون حماية المصنفات الفنية»، ودعم ميزانيّة دائرة الموسيقى في «إذاعة دمشق»، وعدم الاستمرار في تغييب الأغنية السورية عن الشاشة المحلية.
«نعيش اليوم كارثة غنائية، ومعظم الملحنين لا يجيدون النوتة، وهذا جزء من انحطاط عام أصاب الذائقة العربية، بعد غياب الكبار». يصمت قليلاً ثمّ يقول منفعلاً: «الكومبيوتر لا يصنع مؤلفاً موسيقياً، وأغلب الألحان متشابهة ومقتبسة وسطحيّة. ولا بد من العودة إلى الهوية المحلية». يتوقف عند تصريح للفنان ملحم بركات المدافع عن هوية الأغنية اللبنانية، بعد انسياق المطربين وراء الأغنية الخليجية. «أحييه على موقفه الشجاع»، ثمّ يستدرك «لست ضد الأغنية الخليجية، لكن لا يجوز تعميمها على الذائقة العربية بسطوة الفضائيات الخليجية، وذائقة السياح الخليجيين في الملاهي». حارس الأغنية السورية يحسّ بالأسى اليوم بسبب عزلة هذه الأغنية، لكنّه لم يتوقف عن التلحين، إذ لا يمكن أن ننسى ذلك اللحن المؤثّر الذي جعل وديع الصافي يبكي في أغنية «يا دنيا».
ملّ عرفة من ترداد الأسئلة نفسها: «لماذا نهتم بالدراما السورية، ونغبن الأغنية السورية؟ لماذا لا نحصّنها بالحماية القانونية؟». ينبّه الموسيقي إلى أن إسرائيل نفسها تسرق هذه الكنوز وتركّب كلمات عبرية عليها، وتصدّرها إلى العالم بوصفها من تراثها.
يتأمل صاحب «يا مال الشام» مكتبته الموسيقية التي تضمّ أكثر من 1500 لحن، خلال نصف قرن من حياته الموسيقية، ويقول: «ألحاني تُبَثّ من معظم الإذاعات العربية، فيما تغيب تقريباً عن «إذاعة دمشق»، وهذا الواقع ينسحب على ألحان آخرين ممن صنعوا هوية الأغنية السورية أمثال محمد محسن، وعبد الفتاح سكر، وراشد الشيخ». لعلّ أكثر ما يحزنه إهمال أعماله في مجال أغنية الطفل. هذه الأغاني من النادر أن تبث، سواء في «التلفزيون السوري»، أو «إذاعة دمشق»، وبينها أغنية «غنّوا معنا يا أطفال العالم» التي غنتها هالة الصباغ، وفازت بالجائزة الذهبية في مهرجان «النقود الذهبية» في روما (1999).
يخرج سهيل عرفة كل يوم من بيته في الصالحية إلى مكتبه في حيّ المهاجرين بحثاً عن الهدوء والتأمل. يفكر باستكمال مشروعه عن الابتهالات الدينية من موقعٍ مغاير. يتذكر كيف كان يرافق والده إلى الجامع الأموي صباح كل جمعة، لينصت إلى المنشدين. «ربما كانت هذه الزيارات أوّل ما شدّني إلى عالم الموسيقى، سواء في الجامع أو الراديو، إذ كان والدي لا يسمح لنا بالاستماع إلّا إلى نشرة الأخبار والقرآن الكريم والأناشيد الدينية». هذا المخزون المتراكم استثمره الموسيقار السوري على نحوٍ آخر، هو مزيج من الصوفية والتطريب، وقد أصدرته أخيراً «دار الأوبرا السورية» في أسطوانة، تشمل أبرز محطاته الموسيقية. الملحن العصامي الذي خرج ذات يومٍ بعيد من حيّ الشاغور الدمشقي لم يتوقف عن الدفاع عن هوية الأغنية السورية، ويقول: «لا تدعوا الغبار يغطّي هذه الكنوز».


5 تواريخ

1935
الولادة في دمشق

1958
صُنّف ملحناً في «إذاعة دمشق»

1999
الجائزة الذهبية لأغنية الطفل في مهرجان «النقود الذهبية» في روما

2007
نال وسام الاستحقاق السوري

2009
صدرت أسطوانة لأعماله عن «دار الأوبرا» في دمشق