خلال شهر رمضان، يزدحم ليل صور بالساهرين الذين يملأون المقاهي البحرية أو مطاعم السوق القديم، أو... الكورنيش. قليل منهم يقصدون الجامع للصلاة، بينما يتسلّل البعض نحو الحارة المسيحية
صور ــ آمال خليل
يمتلئ الكورنيش البحري الجنوبي بـ«محتلّي» رصيف المشاة حيث تتغاوى النراجيل وتلمع الجمرات. علي (22 عاماً) اعتاد على السهر في «الأملاك العامة»، إذ يجد في الكورنيش حضناً رحباً للشباب من أمثاله، غير القادرين على ارتياد المطاعم والمقاهي بسبب البطالة، فهو لا يزال عاطلاً من العمل رغم مرور عام كامل على تخرجه من أحد المعاهد التقنية. في غير شهر الصوم كان علي يقضي النهار «متسكعاً لتضييع الوقت» مع أصحابه، وفي الليل يجتمعون على الكورنيش حول البيرة والبزورات والنراجيل مصطحبين كراسيهم من بيوتهم. أما في رمضان فقد غيروا البرنامج ولم يغيروا المكان، فالشاب وشلته حذوا حذو المطاعم، إذ أقلعوا عن تناول المشروبات الروحية بينما أبقوا على استهلاكهم للنراجيل، بعدما أضافوا إليها المناقيش واللبنة والزيتون والمشروبات الغازية. أما نهار علي ورفاقه، فيكرّسونه للنوم حتى يحين موعد الإفطار. لكن علي يقر بأن البعض لا يزال يلجأ سراً إلى محال الحارة المسيحية لشراء الكحول بعد رفعها من التداول في مطاعم الحارات الأخرى لمناسبة رمضان.
يصبح الكورنيش الذي يزنر المدينة غرفة جلوس عائلية حميمة في شهر رمضان حتى طلوع الفجر. أما الشارع فيضيق مع ساعات الليل بزحمة سيارات الساهرين التي لا تجد في معظم الأحيان موقفاً لها. الشباب «الشبيحة» يروحون ويجيئون عشرات المرات بسيارة فاخرة تكون مستأجرة في معظم الأحيان، طمعاً بابتسامة من صبية أو «تلطيشاً» لأخرى أو «منظرة» على أقرانهم. أما محبو رياضة المشي أو «الكزدرة» فلا يبقى لهم مكان على الكورنيش. الأمر لا يستفز شرطة بلدية صور التي ينقص أفرادها خلال «وردية» الليل بالرغم من ازدياد الزوار والساهرين الذين يفوقونهم بالمئات. هم حاضرون لتنظيم السير وإلزام المواطنين بالامتثال لإشاراته. أما إذا بدر عن بعض التجمعات الشبابية شيء من «الزعرنات والتلطيشات» أو الإشكالات الفردية التي تتطور أحياناً إلى تضارب بالأيدي وتهديد باستخدام السكاكين، فالأمر حينها يحتاج إلى تدخل القوى الأمنية.
في صور طقوس متفلتة من قيود عدة بسبب التنوع الديني
في السوق التجارية، في الحارة القديمة، تتجلى طقوس رمضان أكثر من المقاهي البحرية. هنا، لا مطربة تغني أو عازف عود كما هي الحال في معظم المطاعم الأخرى، بل محال بيع الفول واللحمة المشوية. من يستطيب الأجواء الشعبية والتراثية العريقة يقصد السوق، بحسب أحد أصحاب الملاحم علي قصاب الذي يوضح أن السوق «يزدهر في شهر رمضان فيما الغلبة لنواحي المدينة الأخرى على مدار السنة». ولا تجد سهى (27 عاماً) أن «ضيق المكان وتلاصق المقاعد والطاولات بعضها ببعض وقربها من ممر المارة يسبب الإزعاج بل يؤمن الدفء والتواصل بين الناس». الصبية لا تتردّد في قطع مسافة عشرات الكيلومترات نحو صور من بيتها الكائن في صيدا للسهر في السوق القديم، فـ«رمضان صور ييستاهل» كما تقول. زميلها في السهر حسين (28 عاماً) يرى أن الكثيرين يفضلون رمضان في صور «لأن له طقوساً خاصة متفلتة من قيود دينية عدّة بسبب تنوع المدينة دينياً». ويرى أن الشباب «مني وجر يحبذون صور هرباً من الأجواء إما المملة أو الأصولية في مدن أخرى».
نظريته قد تصدق جزئياً إذا ما قارنا عدد الساهرين بمرتادي مسجدين يبعدان أمتاراً قليلة عن مقاهي السوق القديم. داخلهما، يقرأ بعض الشبان القرآن وآخرون يصلون لكنهم يتكاثرون عند صلاة التراويح بعيد الإفطار وفي ليالي القدر. وفيما تقل ظاهرة الاعتكاف داخله لثلاثة أيام، فإن الكثيرين من الشباب يدخلون المسجد هذه الأيام على شرف رمضان. وفيما البعض يكمل ليله بإحيائه دينياً، يتسلل البعض الآخر بعد إتمام واجباته الدينية إلى السهر واللهو.
ابتعاد الشباب عن الأجواء الرمضانية الدينية والأخلاقية، دفع بملتقى الشباب الثقافي في صور إلى تأسيس ديوانية شهر رمضان التي تقدم لهذا العام برنامجاً ثقافياً ودينياً وفنياً متنوعاً يشمل لقاءات حوارية مع إعلاميين وسياسيين ومحللين وأمسيات شعرية وفنية ملتزمة وتواشيح يؤديها شباب وشابات هواة تتراوح أعمارهم بين 15 و22 من العمر. الديوانية تهدف بحسب رئيس الملتقى حاتم حلاوي إلى «جعل الشباب يستغلون الأيام الرمضانية بأنشطة مفيدة لهم وللناس وليس حصر طقوس الشهر بالسهر والنرجيلة واللهو».
وفي زحمة السهر والحفلات الغنائية، يخترق كل ليلة عدد من الشباب شوارع المدينة، يلبسون العباءة البيضاء ويحملون الدف والطبلة ويطلقون العنان لحناجرهم بالتواشيح الدينية والأناشيد الإسلامية ليوقظوا النيام. فرقة «المسحراتية» التي تترواح أعمار عناصرها الحاليين بين 10 و27 عاماً، أسسها قبل 15 عاماً شبان من كشافة التربية الوطنية. وحده حسين غدار (27 عاماً) استمر في الفرقة منذ نشأتها حتى اليوم حين تحول إلى القائد المسحراتي الذي يقود المجموعة بين الناس ويضبط محاولات البعض لإثارة الشغب أو المزاح أو الفوضى. بخلاف المسحراتية المعتمدين، لا تبتغي الفرقة الربح، يؤكد غدار الذي يجد في العمل «مساحة لفرح الناس الذين ينتظرون مرورنا أمام منازلهم ويفتقدوننا إذا ما تغيبنا لليلة، فضلاً عن الفرح الداخلي الذي يثيره إنشاد التراويح والتواشيح الدينية في ليل رمضان الفضيل».


المغتربون ضربوا عصفورين بحجر

تزامن الصوم مع النصف الثاني من «الصيفية»، فكسب المغتربون محطتي المتعة في آن واحد: رمضان والصيف. هكذا، بعد حلول الإفطار في كل ليلة، تتوافد إلى صور جحافل المغتربين من المدينة ومن البلدات المجاورة، لتستقبلهم مقاهيها حتى يصبح شارع المطاعم بمثابة تجمّع لمختلف القارات، تتردد في أرجائه لغة عربية تتخللها كلمات بلغات أخرى من أفريقيا وأميركا وأوروبا والخليج وصولاً إلى الصين.