عبد الأمير الركابي*«الديموقراطية» تخيم على العراق منذ عام 2003! أحدهم كتب في إحدى مناسباتها عن احتمال عودة البرابرة، والمقصود هم أعداء الديموقراطية وصناديق الاقتراع المقدّسة. إلا أن هؤلاء كذّبوا التوقعات وقتها ولم يأتوا، والانتخابات أُجريت بتشجيع ورعاية من المرجع الأعلى وبركات بريمر معاًَ. هكذا يمكن ديمقراطية الفناء أن تمارس بدعايات انتخابية تراوح بين الاحتلال الأجنبي والأوامر الصادرة عن ممثل الإرادة الإلهية. لكن تلك الوسائل أثبتت في حينه جدواها، والملايين صوّتوا في غفلة. لم يكونوا على علم بأنهم كانوا يلطّخون أصابعهم بالحبر ليوقّعوا وثيقة فنائهم.
بعد ستّ سنوات، وجد المجتمع العراقي نفسه ينتفض غريزياً ضد تحكّم آليات الفناء. وبدفع غريزة البقاء، بادر قبل أشهر إلى إعلان موقفه بعيداً عن سطوة القوى والميليشيات الجزئية والطائفية، ومتجاهلاً توجّهاتها المعلنة. لقد أراد أن يصوّت للثوابت الوطنية التي عادت حيّة بعد اختبار مرير. فما بين عامي 2006 و2009، عرف العراق (وخاصةً خلال الحقبة السوداء 2006/ 2007) احتراباً طائفياً مريعاً، انتهى إلى عشرات الآلاف من القتلى والمفقودين، وأكثر من أربعة ملايين من المهجّرين في الداخل والخارج، وإلى شلل كلّي للحياة العامة وأبسط مقومات الوجود. ذلك المآل جاء كحصيلة لواقع نشأ على أثر الغزو الأميركي عام 2003، وما أعقبه من تدمير وسحق للدولة «الحديثة» بعد أكثر من 82 عاماً على قيامها. بينما انكشف الواقع عن طغيان شامل للجزئية الطائفية والعرقية والعشائرية. انهارت الدولة ومعها انهارت الرؤية الوطنية الجامعة، تلك التي كرّستها ثورة 1920، فجعلت الدولة الحديثة والحركة الوطنية المعاصرة تصبحان ممكنتين وحاضرتين بقوة. وبعد قرابة قرن من الزمن، انتهى فعل تلك القوى، وتراجعت صيغ الوعي الوطني الجامع، وانطفأت، أو كادت، شعلة العقيدة العراقية الحديثة والمعاصرة الأولى، على وقع قصور الممارسة الوطنية. ويوم انهارت الدولة وغاب فعل الحركة الوطنية، وجد العراق والعراقيون أنفسهم يغوصون في الفوضى، ويرزحون تحت لاعقلانية وجنون فعل وقصور مستويات الوعي الدنيا. وكل هذا كان يفترض نشوء مقومات مهمة تاريخية ووطنية كبرى، لا أمل بوجود عراق حيّ من دونها: تجديد الوطنية العراقية.

ممارسات الاحتلال، وردود الفعل المتعارضة من قوى ما دون وطنية، يستحيل أن تحقّق تحريراً أو ديموقراطية

يصادف أن يكون أوّل مظاهر التجلي الواقعي للعملية الوطنية الحالية مقترناً اليوم بدفع عوامل الفناء. لم تكن علامات طغيان الوعي الجزئي مرتبطة بغياب الدولة الحديثة المنهارة اليوم تحديداً، فالحاصل حالياً هو نتاج مسار طويل، ومنتهى ومآل أزمة في التاريخ العراقي الحديث، بدأت ملامحها قبل أكثر من نصف قرن، وبالذات مع ثورة تموز 1958. إنّ اختبار إقامة دولة حديثة عصرية ومتحررة، ونظام من منتجات الحاضر والخصائص الوطنية معاً، كان ضرورة لم تفلح القوى الحديثة والعصرية في تحقيقها، وأبدت عجزاً تاماً عن الوفاء بها، إلى أن شهد العراق نظاماً من أكثر نظم العالم دكتاتورية وأُحادية في بلاد تعددية بامتياز، وغدت الدولة الحديثة عدوة وفي تضادّ كلي مع الخصائص والمكوّنات التاريخية الوطنية، إلى أن وصل الاستقطاب السياسي حدّاً يبرّر جعل مفاهيم الالتحاق بالاحتلال ومناصرة الغزو الأجنبي «تحريراً» من الدكتاتورية، وذهاباً إلى «الديموقراطية». حتى لو كان ذلك يحدث مع هبوط الوعي والمكوّنات السياسية الطاغية إلى «ما دون وطنية»، وربما إلى ما دون مبرّرات وجود البلد والمجتمع أصلاً. فممارسات الاحتلال، وردود الفعل المتعارضة من قوى ما دون وطنية، وجزئية، يستحيل أن تحقّق تحريراً ولا ديموقراطية. قد تؤدّي إلى تكريس آليات فناء، نعم، وهو ما قد حدث ويحدث بالفعل. وبدل الديموقراطية أو التحرير، وصلنا إلى الحرب الطائفية المريعة، إلى موت دجلة والفرات الوشيك، إلى أعلى نسبة موت بالسرطان، إلى جفاف الأهوار حاضنة الحضارة البشرية وذاكرتها الأولى، إلى آثار اليورانيوم المنضّب على البيئة الباقية لملايين السنين، إلى ما تقوله التقارير عن فناء 70% من سكان بغداد بسبب تردي مقومات الحياة خلال عشر سنوات، إلى التلوث الأعلى في العالم، إلى مليونين من الأرامل، وحوالى أربعة ملايين يتيم، إضافةً إلى تردّي التعليم، وانعدام الخدمات، والبطالة، وشيوع الفساد، وسوى ذلك من الأعداد الهائلة من المهجرين في الداخل والخارج كما ذكرنا أعلاه.
تغيرت الوسائل والدعايات الانتخابية في العراق اليوم، بينما تشتعل الحرب بين انتخابات وانتخابات، فالقوى الطائفية وغالبية قوى الاحتراب الطائفي، والقوى المرتبطة بالمخطّطات الإقليمية وبالاحتلال الأميركي تواصل منذ شهر نيسان الماضي حتى اليوم، حرباً دموية على المجتمع العراقي، القصد منها معاقبته على مواقف كان قد اتخذها خلال الانتخابات المحلية التي جرت بداية العام الحالي، وأظهر خلالها رفضه للطائفية وللمحاصصة، للفساد المستشري، لمخططات الفِدراليات الهادفة إلى التقسيم، للاحتلال قطعاًَ، وطلباً لدولة مركزية ديموقراطية، ومن ثم وطبعاً، طلباً لدولة قادرة على أداء المهمّات العادية للدول وتحمّل المسؤولية إزاء مهمّات من قبيل إعادة الحياة إلى الدورة الاقتصادية والإنتاجية، وترميم التعليم المنهار وإحيائه، وإعادة الخدمات، وخفض مستويات البطالة، ومواجهة الكوارث الاجتماعية المريعة الناجمة عن أربعة عقود من الحروب والاحتلال والإرهاب الأعمى، أو التصدي بكل ما هو ممكن ومتاح لانهيار واحتمالات اختفاء ثوابت تاريخية وحتى جغرافية، مثل النهرين دجلة والفرات، والأهوار، ثم لإحياء حقائق الكيان العراقي ضمن الواقع الإقليمي والعربي بما يناسب وزنه ومكانته سياسياً ودبلوماسياً وثقافياً، ومن ثم لعودة الحياة إلى الآليات المعتادة في قلب الدولة.
في العراق، لا يكاد الناس يخرجون من تحت العواصف الرملية التي لم تتوقف طيلة الصيف، حتى يبدأوا يتساءلون عن آخر مبتكرات ديموقراطية الفناء وأساليب دعايتها الانتخابية. وقد استقر قرارهم أخيراً على اعتماء خصوصيات تعلّموها من تاريخ السنوات الديموقراطية الستّ، وحسب مقتضيات الكوميديا السوداء، يقبل هؤلاء مكرهين حقيقة أن بعض الشعوب مكتوب عليها أن تضحك وهي واقفة فوق قبرها. تضحك أو تموت، وأحياناً تضحك وتموت. القوى التي تواصل التفجيرات وبعثرة أجساد الأبرياء في الطرقات، تبيّن أخيراً، وبعد عدة مئات من القتلى، وما لا يحصى من أطنان الترويع والرعب، أنها تمارس عبر هذا النمط من «الخطاب» الانتخابي الديموقراطي، أسلوباً مبتكراً ـــــ لنقل إنه الأنسب والأكثر اتفاقاً مع الحالة ـــــ على طريق الأمل بالفوز وضمانه. فالناخبون، وفق قواعد الإقناع الديموقراطي، يجب أن يُعادوا إلى بيت الطاعة. لا بد من قتلهم بلا رحمة، حتى يؤمنوا من جديد بجدوى الأساليب التي سبق أن جرى اعتمادها مرات من قبلُ وفشلت: الطائفية. يجب على العراقيين أن يعلنوا التوبة، وأن ينسوا تلك الخطيئة التي ارتكبوها في الشهر الأول من السنة الحالية، حين صوّتوا ضد الطائفية والاحتلال والمحاصصة والتقسيم والفساد، ليعودوا ويقبلوا مرغمين التصويتَ لمصلحة تحكم آليات الفناء والموت، أو يستحقوا الإفناء العمد. يا إلهي، أي مصير يمكن الديموقراطيات أن تفرضه على الناس؟ وماذا سيفعل العراقيون بقصة موتهم الطويل في قلب ظهيرة العالم والتاريخ؟
*كاتب عراقي