كان الشبّان العرب يصفّفون شعرهم في الستينيات كما يفعل عبد الحليم حافظ ويتمثّلون بـ«الريّس» جمال عبد الناصر. كان حليم وناصر مثالاً أعلى لعدد كبير من الشبان آنذاك. اليوم، لم يتغيّر الوضع، إلا أن الوجوه تبدّلت.
ديما شريف
عندما كان زياد صغيراً، كان طموحه أن يصبح «جونغار»، بطل أحد مسلسلات الكرتون. كان «جونغار» مثاله الأعلى في الحياة، يقلّده في الكلام والتصرف. لكنّه اليوم، وهو يُعدّ لأطروحة دكتوراه في الفيزياء النووية، لم يعد لديه مثالٌ أعلى. «الموضوع مبالغ فيه»، يقول ابن الرابعة والعشرين، لأن «لكلّ إنسان تجربة مختلفة»، كما يشرح. يصمت الشاب قليلاً ثم يقول إنّ هناك شخصاً يريد أن يحيا مثله اسمه ريتشارد فاينمان. «هو أهم باحث فيزيائي في العصر الحديث، وهذا لم يمنعه من اللهو وارتياد الحفلات والملاهي والخروج مع أكثر من فتاة في الوقت نفسه!»، يقول زياد.
يختلف مفهوم المثال الأعلى من شاب إلى آخر، ومن فئة عمرية إلى أخرى. ومما لا شك فيه أنّ هذا المفهوم تغيّر مع مرور الوقت. فجوزف الذي كان يطمح إلى أنّ يصبح مناضلاً كوديع حداد وليلى خالد، يدخل في نقاشات حامية مع ابنه الذي «يعبد» بيل غايتس... لأجل أمواله. يحفظ سيرته، ودرس هندسة الكمبيوتر سعياً لتحقيق حلمه بأن يكون «غايتس العربي». يتّفق الجميع على أنّ المثال الأعلى هو شخص يغري الشاب بإنجازاته وحياته المميزة، فيسعون للتشبّه به. في معظم الأحيان، يكون سياسياً أو مناضلاً يتمتع بكاريزما ما، وهذا ملاحظ عند الشباب المسيّسين. وقد يصل الأمر بالبعض إلى الهوس، مثل الشاب المعجب بالرئيس المكلّف سعد الحريري الذي يراه الناس متجوّلاً في الحمرا من وقت إلى آخر، ويتشبّه به في لباسه وطريقة تشذيب لحيته وحديثه.
في المقابل، المثال الأعلى عند بعض الشباب رياضي مهم، وخصوصاً عند المراهقين الذين ينتقلون من التشبّه بشخصيات أفلام الكرتون في صغرهم إلى تقليد النجم الرياضي.
أما المضحك ـــــ المبكي فهو عندما يكون المثال الأعلى عند طلاب جامعيين مغنّين ومغنيات لا تدوم شهرة أغانيهم أكثر من موسم واحد، يتشبّهون بشكلهم ويدافعون عن «مسيرتهم ونضالهم للوصول إلى ما هم عليه اليوم»، كما تؤكد ريم، التي تحلم أن تحقق ربع ما حققته هيفا وهبي في حياتها.
أما عند بعض «الجديين» أكثر من ريم، فالوضع لا يختلف كثيراً. محمود الذي لا تظهر جدران غرفته من صور «غيفارا» لم يقرأ للمناضل شيئاً ولا يعرف عنه سوى أنّه حارب أميركا، وهذا يكفيه. أما بعض الشباب الذين تزيّن سياراتهم صور زعماء سياسيين، فيلوذون بالصمت حين تسألهم عن مشروع مثالهم الأعلى لوطنه لبنان ورؤيته المستقبلية له.
بعض الشباب يسعون وراء الأخلاق الحسنة في بحثهم عن المثال الأعلى. محمد يحب الأنبياء وصانعي الثورات. «لكنني لن أرغب في التشبّه بالنبي في عملي»، يقول الطالب الجامعي. توافق ريتا على رأي محمد. «ليس من المنطقي أن أتشبّه بأحد في عملي سوى بزميل شاطر ربما أرغب في أن أكون بمهارته»، تقول متخرّجة الهندسة. وتضيف أنّ قصة المثال الأعلى وهم وليست أمراً واقعياً.
طارق أيضاً يوافق محمد على موضوع الأخلاق التي يمكن التشبّه بها. لكنّه يطرح فكرة مختلفة: «ماذا لو وضعت مثالاً أعلى لي في حياتي، ثم نجحت أكثر منه وتخطّيته؟». يضيف أنّه يستعير الخصال الجيدة من الآخرين ويقولبها وفقاً لشخصيته.
اليوم قلة من الشباب تحتفظ بنوستالجيا لأشخاص يستحقون لقب المثال الأعلى مثل لينين، ماركس، غاندي، مالكوم إكس وجمال عبد الناصر، إذ فقد البعض الأمل بكلّ شيء، فيما تعلّق آخرون بأشخاص «سوبر ستار»، من سياسيين وغيرهم، أغنياء وطلّتهم جميلة يحلمون بالحلول مكانهم يوماً ما!


أبطال المقاومة: جاذبية لا تقاوم

لا يختلف اثنان على شهرة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في لبنان وخارجه، وخصوصاً بين الشباب. بعض هؤلاء يعدّ نصر الله مثاله الأعلى «بعد أن نصرنا على أعدائنا»، وآخرون معجبون جداً به دون الوصول إلى درجة الهوس. فتجد «الرفيقة الشيوعية» التي وضعت صورته على هاتفها النقال إلى جانب مقطع من إحدى خطبه رنّة.
إلى ذلك، يحظى القيادي العسكري الراحل في حزب الله عماد مغنية بنادي معجبيه الخاص في الضاحية الجنوبية لبيروت. هؤلاء يقلّدون مغنية عبر لبس قبعة شبيهة بتلك التي كان يضعها على رأسه، إضافة إلى إطلاق لحيتهم مثله. واللافت أنّ هؤلاء المقلّدين لم يكونوا يعرفون شيئاً عن مغنية قبل استشهاده، ولا يزالون اليوم لا يعرفون سوى أنّه «مهم في العسكر».


موسى الصدر: العابر للأحزاب والطوائف

آمال خليل
«ما دام الإمام هو المثل الأعلى لدى شخصيات وزعماء ومراجع هي بحد ذاتها مثل عليا للكثيرين، فنحن نختصر كل الأفكار والمبادئ والمثل بانتمائنا إليه واستظلالنا بعباءته». هكذا يحسم قائد منطقة الزهراني في كشافة الرسالة الإسلامية التابعة لحركة أمل جمال جعفر، سبب تمسك مئات الشباب بالإمام موسى الصدر مثلاً أعلى لهم.
لائحة المدائح في حب الإمام طويلة جداً لدى شباب لم يعرفوا عنه «ما يضر لبنان ويهدد وحدته أو يضر الجنوب وأهله، إنّنا في الجنوب نعيش من خيراته، فلماذا لا نحبه ونتمسك بقضيته؟»، كما يردد البعض.
قاسم مشورب (21 عاماً) ليس وحده من أحب الإمام الصدر بالفطرة، «لأنّنا ولدنا وصوره وسيرته وأقواله حولنا أينما ذهبنا، بالرغم من أنه غيب قبل ولادتنا بسنوات»، كما يقول. يقر قاسم ورفاقه الكشفيون والحركيون بأنّ التصاقهم بالصدر لم يخترعوه أو يستوردوه. فالبلدة حيث يقيمون (البيسارية ــــ قضاء الزهراني)، بمعظمها خضراء تعلن ولاءها إلى حركة أمل برايات الحركة وصور الإمام المغيّب وأقواله المأثورة. فإذا كان الإمام حياً في جدران البلدة فكيف به لدى أبنائها وأجيالها الخضراء الصاعدة؟
يحمل بلال النابلسي (15 عاماً) مثل أقرانه صورة الإمام على زنده كجزء من زي كشافة الرسالة التي أسسها الإمام عام 1978 والتي انتسب إليها «كأقل الوفاء له». وإذا كان قد ورث الانتساب إلى الكشاف ولاحقاً إلى حركة أمل من عائلته التي تضم شهيدين للحركة، إلا أنّه تدريجاً تأثر بشخص الإمام وأخذ تلقائياً يختم صلواته بالدعاء بعودته». يقرّ الفتى بأنّه لم يقرأ مؤلفات الإمام أو يتعمق في رؤيته في السياسة والدين والدولة والاقتصاد ويكتفي بالدروس التي يتلقاها من قادته عنه.
أما ملاك أحمد (21 عاماً) فإنّها تجد بأنّ «القلائل في حركة أمل انحرفوا عن نهج الإمام ولم يحفظوا وصاياه، لكن في المجمل سيفرح الإمام بنا لدى عودته كما لو كنا سنفرح به ونحبه أكثر لو كان موجوداً بيننا». لكن سامر الزين (24 عاماً) بات يخجل من الإمام، وعلى قدر حبه وتمثله به يجد «آلاف المبررات لكي لا ينتسب إلى المؤسستين» لأنّ بعض القيمين عليها خانوا وصاياه و«غرق بعضهم في الفساد والطائفية والنفاق والاقتتال الداخلي والعمالة لإسرائيل». ويشير إلى أنّ الإمام «لم يعد تدريجاً مرتبطاً بحركة أمل فقط، بل بحزب الله والشيعة عموماً وليس ضرورياً أن يرتبط ولائي للإمام باللون الأخضر ما يؤكد أنّه مثل أعلى لكلّ اللبنانيين على اختلاف طوائفهم».


بشير «حي» فينا

رنا حايك
نظارات «ري بان» وسترة كاكية اللون. قامة منتصبة ونظرة حادة، وخطاب لا يقبل المساومة على شعارات أعيد إحياؤها منذ فترة على الساحة السياسية تحت صيغة: لبنان أولاً. تكفي هذه الأدوات لاستحضار الشخص العسكري «الأيقونة»، الكتائبي ــــ القواتي بشير الجميل. وكيف لا يصلح بشير مثالاُ أعلى لمجموعة من الشباب يغريها تحقق توازن «الين واليانغ» في جملته الشهيرة: «نحن شياطين هذا الشرق وملائكته»؟
فالكاريزما التي تمتع بها قائد عسكري «حازم وقوي، كان له مشروعه وعمل عليه بجد وتفان»، كما يصفه غيث، تجعل أعداءه في السياسة، وغيث أحدهم، يحترمونه وإن لم يوافقوه في السياسة. ففي مرحلة من المراحل، جسّد هذا الرجل الحلم بلبنان حرّ، وإن كانت طريق الحرية قد عبّدت بالقتل والدماء لاحقاً. بالنسبة لداني، المنتسب للقوات اللبنانية اليوم، «يجسّد بشير صورة البطل لسببين. أولاً لأنه انتفض على تكريس التقليد العائلي ولم يسلك الخط السياسي لأهله بل أسّس لخط جديد. وثانياً لأنه أعاد إحياء الذاكرة النضالية المسيحية التي مرت بمحطات عدة سلكها المسيحيون للوصول إلى الوطن». وبالنسبة إلى الشباب، يضيف داني، أن بشير حاز احترامهم لأنه «كسر الصورة النمطية للزعيم في برجه العاجي»، فكان قريباً منهم، على الأرض، في الاجتماعات السياسية وعلى الجبهات. هل يعوّضه أحد؟ على هذا السؤال، يجيب داني أن نهج بشير لا يزال حياً في الناس رغم مماته، وأن بعض الأشخاص يمثّلون اليوم امتداداً لطروحاته لكن «الظروف حالياً مختلفة عن تلك التي أحاطت ببشير».


عودة ماركس... شبابياً

لم يعيشوا زمن غيفارا، ولا مرحلة قيام الاتحاد السوفياتي ثم سقوطه. لكنّهم ماركسيون. فماذا يعني لهم اليوم الحديث عن «عودة ماركس»؟

دمشق ــ محمد دحنون
في العام نفسه الذي أعلن فيه ميخائيل غورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي، سياسة البروسترويكا، صرخت ختّام صرختها الأولى في الحياة. هي لم تشارك أباها «الشيوعي المزمن»، كما تصفه، ذكريات تلك المرحلة، لكنها تحن إليها. حنين يسمح باستعادة المرحلة صوراً وملصقات و...انتماءً.
تقول ختام «لم يعن لي يوماً أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو نهاية المشروع الشيوعي». تبعاً لذلك يغدو من المنطقي ألا يعني لها الحديث اليوم عن (عودة ماركس) شيئاً: «عودة ماركس، ممكن أن تعني شيئاً لأولئك الذين تخلّوا عن أحلامهم وانتمائهم، لكن بالنسبة إلي كان الأمر كلّه كبوة جواد كما يقولون».
يشارك رائد «رفيقته» الرأي بما يصفه «عدم الانشداه أو المفاجأة بعودة ماركس»، ويعلّل المسألة بالقول «لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق نتيجة خطأ في النظريّة، بل نتيجة الممارسة البشريّة التي تحتمل الكثير من الزلات». لكن ألا يحيل هذا الكلام إلى شيء من تقديس النظريّة وعدم الحاجة إلى مراجعتها؟ يجيب رائد«من المؤكد أنّه لا مقدسات، ولكن حين أتكلّم عن صحة النظريّة، أعني بذلك العلم الماركسي، أي التحليل الاقتصادي للعمليّة الإنتاجيّة ولدورة رأس المال والرأسمالية عموماً»، لافتاً «يجب ألا ننسى أن الماركسيّة كعلم تحوي عدداً من القوانين الوضعيّة». من جهتها، ترغب ختام في التعبير عن رفضها لأي عودة نوستالجيّة أو خلاصيّة إلى الماركسيّة قائلة: «ما نحتاج إليه اليوم يتجاوز المشاعر!».
يتحدث محمد عن دور الأسرة في المسألة «أهلي جميعهم كانوا شيوعيين باستثناء أمي، فقد كنّا، نحن الاثنين، ملتزمين دينيّاً وغير ملتزمين سياسيّاً، بعكس بقيّة أفراد الأسرة، لكن هل تصدّق أنّني الماركسي الوحيد في العائلة اليوم؟».
ما هو دور الأسرة إذاً؟ يجيب: «في الحقيقة، كان يجب أن أقول هناك دور لمكتبة العائلة وليس للعائلة، بالإضافة إلى دراستي الجامعيّة في كليّة الاقتصاد والخبرة الحياتية»، ويضيف "دعني أخبرك أن كل أفراد عائلتي سخروا مني حين التزمت سياسيّاً بالحزب الشيوعي السوري. قالوا لي إنت رايح ع الحج والناس راجعة. أنا في الحقيقة لا أريد الذهاب إلى الحج، لكن إذا كان ولا بد، فأفضّل الذهاب والناس راجعة!».
يتابع بحماسة: "أنا مثلاً، لا يعنيني أبداً أن يخرج واحد، حتى وإن كان بحجم فوكوياما، ويقول لي بسذاجة: الشيوعيّة انهزمت، والرأسماليّة ربحت! المسألة تتعلّق بخيار وقناعة فرديتين قبل أن تكون أملاً بالتغيير».
تطلب إيفلين من صديقها المزيد من الدّقة في النقطة الأخيرة، وإذ يسألها: «شو قصدك؟»، تبدأ الحديث: «أقصد أن التجربة الاشتراكيّة في الاتحاد السوفياتي قد سقطت فعلاً، لكنّ هذا لا يعني أن الرأسماليّة انتصرت، ولا يعني أن الشيوعيّة انهزمت!». إيفلين لم تتجاوز الثامنة والعشرين بعد، تصف التسعينيات بفترة «التصحّر السياسي والعاطفي». العاطفي؟ «أعني المرحلة التي فقد فيها معظم الناس الأمل بمستقبل أفضل». لكن ما معنى التجاوز في هذا السياق؟ تجيب «أن أتجاوز حالة اللامبالاة والإحباط واليأس التي أصابت الغالبيّة الساحقة من منتسبي الأحزاب اليساريّة في سوريا والعالم». تجاوز نعم، لكن إلى أين؟ لا تبدي إيفلين ارتباكاً أمام هذه الـ«إلى أين؟» ذات النكهة الوجوديّة؛ تقول بثقة وباختصار «إلى اللحظة التي يعترف فيها الجميع بأهميّة ماركس والماركسيّة».