في رمضان نجمان، الجوع وفعل الخير. الأول باختيار الصائمين، ووطأته أشد على الفقراء منهم. والآخر تطارده الجمعيات إلى جيوب أهله، وإعلاناتها تسد الفضاء. هنا يوميات رمضانية لـ«معدومي الدخل» في الضاحية الجنوبية لبيروت
منهال الأمين
حين «يقرص» الجوع في رمضان فهو أشد إيلاماً. هكذا يلخّص أبو كامل (اسم مستعار) وضعه. فقبل شهرين، أُقفل الفرن الذي كان يعمل فيه ولم يجد بديلاً منه. يعلّق: «من الطبيعي أن يفضّل صاحب العمل فتىً في أول طلعته يرضى بالقليل على أجير تجاوز الخمسين، ومسؤول عن أربعة أولاد وأمهم».
يتجاوز ضيق حال أبي كامل انعدام الدخل، إلى مشاكل صحية يعانيها وزوجته. هو يحتاج إلى عملية في القرنية تكلفتها 2500 دولار. أما هي فمريضة في القلب، يعجز عن تأمين دوائها الدائم من وزارة الصحة لأسباب يجهلها. وعندما لجأ إلى إحدى الجمعيات لتأمين الدواء وثمنه 100 ألف ليرة، اقترحوا عليه بديله السوري أو الأردني، لأن ثمنه 40 ألف ليرة فقط «أو خلي الطبيب يدفعلك»! يستدين أبو كامل ليؤمن الدواء، وليدفع 250 ألف ليرة، قيمة إيجار منزله في البناية المتهالكة، الخالية من المصعد ومن أية ظروف ملائمة، قرب كلية العلوم في الحدث. أكبر أولاده، كامل (15 عاماً) ترك المدرسة منذ ثلاث سنوات «لأنو مش نافع»، ويعمل حالياً في محل ألمنيوم، من دون مقابل حتى يتعلم المصلحة. فيما يجهد أبو كامل بشق النفس للإبقاء على إخوته في المدرسة «إما بالدين أو باللجوء إلى المدارس الرسمية إذا عجزنا».
وبما أن شهر الصيام دهم «أبو كامل» عاطلاً من العمل، وهو شهر تكثر فيه المتطلبات ربطاً بارتفاع منسوب الجوع، وجد الرجل ضالته في الجمعيات والمؤسسات التي تنشط في هذا الشهر جمعاً للتبرعات المادية والمساعدات العينية لتوزيعها على الفقراء، وبعضها يقدم حتى ثياب العيد عبر بونات شراء من محال الألبسة.
وفي منزل بُني على عجل في شارع «المهمول» في الحدث، يرفض أبو أحمد الحديث عن وضع أسرته فتتولى زوجته سرد يوميات معقدة مع الطعام والشراب والدواء. أبو أحمد، عامل يومي في جلي البلاط، جاء من بعلبك إلى بيروت بناءً على نصيحة أحد أقربائه «حتى تتحسّن أوضاعه». لكن الأمور هنا لم تكن أفضل، إذ توالت الانتكاسات واحدة تلو الأخرى. فالرجل لا يعمل منذ نحو سنة، بينما اضطرت أم أحمد لإخراج البنت الكبرى (17 عاماً) من المدرسة، ودفعت بها للعمل في مطبعة. ومع أنّه لا أجر محدداً للفتاة حتى الآن، لكونها مبتدئة، تطمح أم أحمد لأن تسدّ يوماً ما بعضاً من رمق إخوتها الخمسة. وبعضهم بدوره نزل ميدان العمل باكراً: حسن (10 سنوات) وإبراهيم (8 سنوات)، يعملان في محل ميكانيك، بعد أن يئس الأهل من جدوى بقائهم في المدرسة. وبقي أملهم معلّقاً على علاء ( 13 عاماً) الذي يبدو أنه لن يتسجل في المدرسة هذا العام «لأنه يحب العمل أكثر». ويروي عم علاء كيف يتلهى الفتى عن المدرسة بأي شيء آخر. وإذا صادف بعض الحديد والنحاس والألعاب وهو متوجه صباحاً إلى المدرسة، يعكف على جمعها ليبيعها وبذلك «يكون نهاره رابحاً أكثر».
يركض أبو علي ملبياً طلبات السكان في 3 مبان هو ناطورها الوحيد
لا تقصد أم أحمد الجمعيات لطلب المساعدة «لا أكسر نفسي لأحد. فكثير من هذه الجمعيات لا تساعدنا لأن رب الأسرة موجود». تعاني المرأة تضخماً في الكلى، ولا تملك نفقات العلاج وإجراء الفحوص اللازمة، بل تكتفي «بالمسكنات ومعاندة الوجع». أما عن السكن فحدّث ولا حرج «بالشتا غريق وبالصيف حريق. نفرش على السطح، وهو نصف توتيا ونصف باطون غير مسلح، شادر نايلون كي لا تنزل المياه علينا، وبالصيف قعدتنا كلها بالدار»، أمام منزل شيّد على أرض مشاع. وتأمل العائلة تعويضاً من الدولة إذا ما سُوّي وضعها «مع أنّ البقاء هنا أفضل من التعويض لأننا سنصبح من دون بيت».
ليس بعيداً عن العائلة المنكوبة، يركض أبو علي عطوي (45 عاماً) من شقة إلى شقة ومن بناية إلى أخرى، ملبياً طلبات السكان «التي لا تتوقف» في ثلاثة مبان هو ناطورها الوحيد، تقع ضمن مشروع الآفاق في الليلكي. يسكن أبو علي الطابق الأرضي لأحد تلك المباني التي لم تكتمل بعد، والمكون من غرفتين ومطبخ وحمام. يتقاضى 10 آلاف ليرة عن كل شقة، ومسؤوليته تتعدى «الكناسة والحراسة» إلى كل أعمال الصيانة، من كهرباء وسمكرية وغيرها. لا تكفيه طبعاً 320 ألف ليرة، مجموع ما يحصّله من مبالغ شهرية من الشقق المسكونة، لذا فهو يعمل «براني» في مصلحته الأساسية، السمكرية، كي يستطيع تلبية حاجات عائلته المتزايدة يوماً بعد آخر. يتحدّث أبو علي بشغف عن ابنته الكبرى التي ستنجب له حفيده الأول بعد شهور. في البيت حالياً خمسة أولاد، كبيرهم في العشرين وصغيرهم ابن الأربع سنوات. ولأن الحمل ثقيل فإنه يعتمد كثيراً على المساعدات العينية والمالية التي تقدمها بعض الجمعيات خلال شهر رمضان، وكذلك كسوة العيد التي تجعل الأولاد يشعرون بأنهم يشاركون أترابهم فرحة العيد «وإلا فإن العجز يمنعني من تأمين ثياب جديدة لهم كل عيد». يبدو أبو علي متفائلاً وغير مكسور الخاطر، على الرغم من معاناته لأنه يحمل الجنسية السورية، مع أن أصوله لبنانية، وجميع أقربائه لبنانيون «نقف على باب المستشفى لأنه لا ضمان ولا من يضمنون، على الرغم من تدخل مكتب أحد المراجع الدينية التي دفع لنا 600 ألف ليرة».
لكن الرجل الذي جارت عليه الأيام وحرمته من تحقيق أحلامه الكبيرة، بدا شديد الحرص لكي يكمل أبناؤه تعليمهم. سجّلهم في مدارس خاصة، وهو ما يجعله مديوناً كل العام «حتى الولد يكلفنا في الجامعة اللبنانية 900 ألف ليرة لأننا على الورق مش لبنانيين». ويروي أن هناك بعض الجهات السياسية والنواب وعدوه بملاحقة موضوع الجنسية ولكن «على الوعد يا كمّون» في ظل التعقيدات التي تحيط بملف التجنيس «لأسباب طائفية وسياسية».
ولكن ماذا عمن «تحسبهم أغنياء من التعفف»؟ مثل سميرة (اسم مستعار) التي توفي زوجها منذ خمس سنوات، وترك في رقبتها ثلاثة أطفال. في الظاهر، أعادت سميرة فتح محل زوجها في أحد أسواق الضاحية الجنوبية، لبيع اللوحات واللوازم الإسلامية، وشاركت أحدهم برأس المال، وهو ما يفترض أن يكون مصدر دخل لها ولأولادها، إلا أن الحقيقة عكس ذلك كلياً. يروي بعض العارفين بحالها أنها تعيش حياة متواضعة، توفر كل ما تدخره لتعليم أبنائها، ولذا فأدوات مطبخها لا تتعدى عددهم، وتشتري ملابس لهم فصلياً «حتى لا يشعروا بالتمايز عن رفاقهم في المدرسة». تلفازها من ريحة المرحوم أبيض وأسود. وأثاث منزلها كذلك «ذاب الإسفنج وصار جلداً وعظماً». لم تطلب يوماً مساعدة من أحد، حتى أقرب المقربين، لذا فإنها لا تستفيد من أية تقديمات اجتماعية، لا في شهر الصوم ولا في غيره.
«حين يضرب الجوع» فإنه لا يميز، ولكن ماذا عن أهل الخير والجمعيات الخيرية؟ هناك وجهة نظر لأحد العاملين في هذا المجال، يرفض نقلها باسمه، تقول إن عمل الخير في لبنان طائفي حتى النخاع و«كل من بيهمو جماعتو»، والصدقة لم تعد لوجه الله بل لوجه الصندوق الانتخابي أولاً وأخيراً!


أكشاك للتبرعات

تنشط في الضاحية وغيرها من المناطق الإسلامية، الجمعيات والمؤسسات الخيرية، لجمع التبرعات العينية والمادية، وتقديمها للعائلات المحتاجة. وتنتشر على الطرق حملاتها الإعلامية المشجعة على بذل الصدقة وفعل الخير، فضلاً عن الإفطارات المفتوحة التي ينظّمها أفراد ميسورون في هذا الحي أو ذاك. كما تعمد بعض تلك الجمعيات إلى نصب «أكشاك» على الطرق لاستقبال التبرعات، كجمعية المبرات الخيرية ولجنة الإمداد الإسلامية ومكاتب المراجع الدينية و«مائدة زين العابدين» التي تقوم فكرتها على تأمين «المواد الأولية» من خضار وفواكه ولحوم، وإيصالها يومياً إلى المنازل المستحقة، حتى يتسنى للأمهات إعداد الإفطار في المنزل أسوة بغيرها من ميسوري الحال، كما يقول بلال ناصر أحد المشرفين على المشروع. وهو ما يجعل أم أحمد تتمنى دوام رمضان كل السنة «ما دام أهل الخير أياديهم سخية فيه». والدعوة موجهة من ناصر إلى الخيّرين للمساهمة في دعم «المائدة» لأن «هناك فقراء كثراً لا يحضرون الولائم العامة».