كانوا يحدقون في الأجزاء الأخرى من العاصمة بألم. يسألون عن التمييز في توزيع الضوء. هناك، في الضواحي، يمكن أن يكون الضوء مؤلماً
أحمد محسن
الكهرباء مقطوعة. لا جديد في الظلام. لا يبدل ملابسه. العباءة السوداء ذاتها. ينهال العرق على وجوه الشبان في المقهى الشعبي، بينما يلامس الضوء عيونهم من بعيد ليختلط بالتحليلات السياسية. تنهال الشتائم على وجوه السياسيين: 8 و14، على حد سواء. لا وسطية في الكهرباء، كما هي الحال في أمور أخرى كسلاح المقاومة، أو ثورة الأرز، وثوابت العروبة وفلسطين طبعاً. على الأرجح، يعرف السياسيون أنهم ينالون قسطاً وافراً من السباب، لكنهم، تحت تأثير «الأير كونديشن»، ربما ينسون سريعاً. أحد رواد المقهى، يعلن خبراً غير متوقعاً: يعبر عن فرحه بانقطاع الكهرباء. ليس سعيداً بالعتمة، ولا عدواً للنور. القصة أن التيار الكهربائي سيعود في الثانية عشرة. اليوم، سيتمكن من النوم. هكذا، تتقلص أحلام الفقراء. تنحسر في وسادة صغيرة، لا يُغرقها الأرق.
تنحسر أحلام الفقراء في وسادة لا يُغرقها الأرق
في سيارة الأجرة، يكتمل السيناريو اللبناني. سائقٌ ثلاثيني، يستمع إلى «صوت الشعب». يسأل عن أحوال الكهرباء. يطلب الهجرة من الرب. لا يريد عطلة. لا يريد أن يدّخر شيئاً. يخاطب الراكب، مفترضاً أنه وزير المالية. يطلب مدارس لأطفاله المتعرقين من حرارة الصيف القاسي. يطلب مستشفيات، فهو خائف من أنفلونزا العصر. يبتسم مع صعود راكب آخر، إلى عين المريسة. ومن دون أن يقصد، يطلق تحليلاً طبقياً دقيقاً، ماركسياً بامتياز، عن علاقة المجتمعات برأس المال، وكيف أن الاقتصاد يحرك الشعوب. غريبٌ كيف يمكنه الابتسام، وإخبار هذه القصة عشرات المرات في النهار الواحد. في طريق العودة، صادفت رجلاً يتناول سحوره من مكب النفايات. هذه القصة حقيقية. إذا كان هذا سحوره، فتخيلوا إفطاره. جاءه الشهر الفضيل من غيمة. اعتقد أنه صائم دائماً، وأن رمضان، في ظروف كهذه، لا يُعتبر فضيلاً.
أخيراً، صدر تقرير عن لجنة هلسنكي لحقوق الإنسان في البوسنة والهرسك، تحدث عن ارتفاع معدل انتهاكات حقوق الإنسان في بلاد المقابر الجماعية ارتفاعاً مخيفاً، خلال عامي 2007 و2008. سجل التقرير وجود 3743 أسرة تعيش بلا كهرباء. رأوا في الأمر انتهاكاً لحقوق الناس، وهنا في لبنان، إذا قارنا الأرقام، يمكن أن نضحك على الرقم الصغير. عدد الذين يحرقون الإطارات يتخطى هذا الرقم تقريباً. لماذا الإطارات؟ لأنهم يحبون الأشجار. الأشجار أيضاً، في وقوفها إلى جانب أعمدة الإنارة، تبدو أنها مثل المحتجين، تنتظر شيئاً ما. توظف أوراقها ضد الشمس، فيما توظف الإطارت للصراخ. لا أحد يسمع، حتى الكلاب التي تمر بجانب الحانة.
المشكلة وجودية. الأمر ليس شخصياً، مع الوزراء والأحزاب والحركات المتعاقبين على الفساد. حاشاهم. ينامون وهموم المواطن تقلقهم. للأمانة جميعهم كذلك، ضميرهم مرتاح. هل سبق لأحد أن شاهد وزيراً عابساً على التلفاز؟ رغم همومهم، ضميرهم مرتاح، وهنا المشكلة الوجودية. أذكر هنا قولاً حكيماً، لرجل محكوم بالسجن المؤبد في رومية. قال بثقة: هنا سجن وفي الخارج سجن. هنا مجرمون بثياب قديمة، وهناك مجرمون بربطات عنق. المجرمون هنا يسرقون من الأغنياء، والمجرمون هناك، يسرقون من الفقراء.