وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

«الالتراس» هو النموذج السياسي السائد في العالم العربي اليوم. هم مجموعة من شباب متعصّبين لفريق رياضي يستبدلون به انتماءً للبلد أو للطائفة أو للعائلة. «النادي فوق الجميع» هو الشعار الذي يلهب الحماسة ويصنع الوجود لجمهور الإلتراس الرياضي. ويبدو أنّ انتقاله للسياسة تزامن مع بحث العالم العربي عن هوية. أو بمعنى ما ملأ الالتراس السياسي فراغاً تركته هزائم العروبة وجيوش فكرية تربّت على فكرة «البحث عن هوية».
إيقاعات الفكرة الصاخبة سيطرت على عقل العالم العربي طويلاً... كانت المحاولات تبدأ من السعي إلى التوفيق لإيجاد «اشتراكية عربية» أو «اشتراكية إسلامية» إلى الانشغال بصناعة موديل محلي للاختراعات الغربية.... كيف يمكن ممارسة الديموقراطية مع مراعاة التقاليد المحلية؟
هذا تمرين مشهور على حرب الهويات القاتلة التي شغلت العالم العربي وما زالت كما نراها في السياسة والرياضة والفنون. لكن الإلتراس هو السير... إلى الحافة. تحويل الهوية إلى قنبلة تحت السرير لا هي تنفجر ولا تشعرك بالأمان.
جماعة الإلتراس يجدون أنفسهم في انتصار فريقهم الرياضي... وله أشباه في السياسة يرفعون علماً حول زعيم صغير يرون فيه المبعوث الإلهي ويسبغون عليه بطولات وأساطير تنقله من مصارع في حلبات السياسة، إلى أيقونة مقدسة.
الإلتراس هي المجموعة التي تستمد وجودها من الجماعة الصغيرة... ولم تعد الهوية بالنسبة إليها الوطن ولا الطائفة ولا الديانة. الهوية شارة ولون الجماعة الصغيرة المغلقة.
وُلد الإلتراس في مصر مع أشهر الأندية المصرية (الأهلي) الذي تحولت انتصاراته إلى مصدر جاذبية لكل المهزومين والمحبطين الذين نقلوا متعة التشجيع إلى انتماء وجودي جعلهم يحرقون ذات مرة مشجعاً من الفريق المنافس (الزمالك). «الأهلي» أصبح هو الانتماء لا العائلة ولا المدينة ولا البلد... «الأهلي فوق الجميع». نسخة رديئة أو عاجزة من النازية أو الفاشية... نسخة من دون أفكار كبيرة. مجرد تجمعات للمنكسرين.
الهويات الصغيرة أو المتلاشية هي العمود الفقري لأزمات العالم العربي. في لبنان اختفت المشاريع الكبيرة لدفع البلد إلى حالة أرقى من دولة الطوائف. الأصوات الباحثة عن الدولة السيدة على الطوائف تخفت إلى درجة لم تعد تسمع فيها.
أصبحت دولة الطوائف أرحم من دولة تتصارع فيها المجموعات المتحلقة حول أمير له أصل طائفي، لكنه اقتطع من الطائفة جماهيره وغادر بهم إلى حلقة أضيق من الطائفة، لكنها تضع الأمير في مصاف فوق الجميع.
الأمير مقدس ومتعال على النقد ونصيبه في لبنان لا يمس... وهو صنيعة إيمان مهووس بالبطل... والمخلص والمنقذ. هي كلها أساطير تصنع بها الطائفة لحمتها العاطفية والنفسية.
هذا هو الإلتراس السياسي. تعصُّب لحق الجماعة في «الكعكة»، لا في دولة لها قواعدها، وهذا ما يجعل الأصابع الإقليمية حاضرة بشكل شبه معلَن. فالأطراف كلها متفقة في ما بينها على أنّ مشكلة تأليف الحكومة في لبنان رهن حركة من الأصابع الإقليمية.
أصبحت خريطة الطوائف في لبنان غائمة. لم تعد بنفس تركيبتها الباحثة عن قسمة عدل في النظام السياسي. تفتُّت الهوية الطائفية إلى هويات أصغر وفيها يبحث المشجع أو الجمهور عن بطله الذي يشترك معه في الدين أو العائلة وليس أكثر من ذلك.
هويات تضيّق العالم، لا تفتحه على أفق جديد، ومعها يصغر أصحاب الأفكار عندما يدخلون حروب الالتراس. يتخلّون عما منحته لهم الثقافة والحرية لينحازوا إلى طرف في الحروب على الكعكة، وكل يغطّي تورطّه في حلبات الهوية الصغيرة بغطاء كبير مصنوع من قيمة عزيزة (المقاومة، الديموقراطية، الليبرالية والمستقبل)، وكأن المتصارعين في تلك الحلبات يمكن أن يخرجوا عن سياق التعصب ويصنعوا بلاداً تشهد من جديد البهجة المفقودة.
ليس سهلاً التعالي على حروب الالتراس، لا في لبنان ولا في غيره. لكن لا بد من الدفاع عن قيم تعبت فيها البشرية وحرّرت فيها العقلاء من عبودية الأمراء الصغار.
العقلاء ممتنعون ومحبطون وجزء من وقود معركة حمقاء تشتعل في مصر مثلاً بين مؤيدي جمال أو شخص آخر قادم من الكهنة القدامى. المعركة غافلة تماماً عن انهيارات الدولة التي جسّدتها أخيراً انهيارات في منطقة «باب الشعرية». انهيارات ابتلعت سيارات وزلزلت مباني بسبب خطأ لم يعلن عنه أثناء حفر المترو. «الانهيارات» إشارة خطر جديدة. هذه المرة ليست في مؤسسات الدولة، بل في المدن والبنايات نفسها.
حالة الانفلات المسيطرة على الدولة وصلت إلى مرحلة جديدة مع أخطاء الحفر.
وعندما تقترب الكارثة السياسية من حدود الكارثة الطبيعية، تكون علامة على فقدان العقل كلياً.
الأنانية المفرطة أصبحت أكبر من النظام الذي اخترعها. فتح النظام باب الغرائز المتوحشة وأصبح كل من يستطيع أو يمتلك قوة، يضع يده على مكان يسيطر عليه ولا يحركه إلا الأقوى منه. فما الداعي للعمل أو الإخلاص أو مراعاة الضمير والمسؤولية؟ لقد غابت هذه القيم تماماً، لم يعد هناك مجال عام متفق عليه على الحفاظ عليه معاً. المجال العام هو صراع بين أتباع أمراء الإلتراس.