بعدما نجا مساعد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف من محاولة اغتيال في الثامن والعشرين من آب الفائت، من المناسب أن نتحدث بأسلوب المكاشفة عن التجربة السعودية في مكافحة الإرهاب بعيداً عن شقها الأمني والعسكري
أحمد عدنان*
تبدو تصريحات المسؤولين السعوديين صريحة في إدانة الإرهاب منذ بدء الظاهرة. وقد تطورت الإدانة لتشمل التعاطف مع الظاهرة أو المساهمة في إيواء مجرميها أو تمويلهم، وهذا لا شك تطور في محله، ولكن للأسف، وبالتأكيد عن غير قصد، أجد أن الخطاب الرسمي، يخترقه بعض التعاطف الذي يحتاج إلى تصحيح، بدءاً بوصف «الفئة الضالة» الذي نتحدث به عن خلايا الإرهاب وأفراده في البلاد، وهي «الفئة الباغية» كما ورد في مقال حسناء القنيعير (الرياض 23 أغسطس 2009)، وشتان ما بين الضلال والبغي.
قد يستخف البعض بهذه الملاحظة ويعتبرها ترفاً لفظياً، ولكن الحرب على الإرهاب، ليست مجرد حزم أمني وعسكري، وتقويم حكم فقهي، بل تتعدى ذلك كله إلى حالة شاملة، تشمل طرائق التفكير ومنهج الخطاب تعاضداً مع المعركة في ساحة القتال. كما أنّ وصف «الضلال» بحاجة إلى الاستكمال بسؤال: من ضلّلهم؟! وهذا السؤال يجرّنا، شئنا أم أبينا، لمراجعة السياسات التعليمية والإعلامية والثقافية والدينية التي كانت سائدة قبل أحداث أيلول (سبتمبر) 2001م. وأتفهم التحليلات التي حررت النظام من كل مسؤولية عن الظاهرة، ملقية العبء كاملاً على التيار (الإسلاموي) في البلاد الذي تسيّد منذ حادثة جهيمان في الحرم المكي 1979، بل من الممكن أن نقول إن شوكة هذا التيار تعززت قبل تلك الحادثة، تحديداً منذ رفع شعار «التضامن الإسلامي» في مواجهة القومية العربية والتيار الناصري. وهنا تقع مسؤولية النظام الذي أدخل مواجهته الخارجية في سياساته الداخلية، ولو من زاوية «تحصين الجبهة الداخلية» كما كان يعتقد حينها.
إذاً، فالمسؤولية مشتركة، بين النظام صاحب القرار، والإسلاموي، صاحب العقيدة ومنفذ القرار. وقد تكون المسؤولية أخف وطأة بكثير على التيارات الأخرى التي أوهنتها قبضة الأمن أو سياط التكفير والتخوين، وهنا وجب أن نراعي، أن ظروف الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تختلف عن ظروف اليوم، وخاصة ظروف ما بعد أيلول/ سبتمبر 2001. ولعل تحليلات المثقفين المقربين من النظام، التي أعفته من أي مسؤولية سابقة، يمكن أن توضع، في خانة ندم النظام نفسه على ما كان. وتعزز هذا التحليل، التصريحات والنيّات والقرارات التي صدرت في السنوات الخمس الماضية في مجالات التعليم والقضاء والإعلام والفتوى، والتي تسعى لبدء صفحة جديدة نحو غد أفضل.

الخطاب الرسمي يخترقه بعض التعاطف بدءاً بوصف «الفئة الضالة» الذي نتحدث به عن خلايا الإرهاب

ملاحظة أخرى على الخطاب الرسمي، تتمثل في برنامج «المناصحة» الذي دفع كاتبة على يمين اليمين مثل أميمة الجلاهمة في أيار/ مايو 2007 لأن تكتب في صحيفة «الوطن»: «الحزم والقصاص... لا مناصحة ولا مسامحة»، لأن مثل هذا البرنامج، قد يهون من مغبة السير في طريق الدماء حين تكون عاقبة البعض امتلاك منزل وسيارة وسداد الديون والزواج، ونظراً لاعتزاز بعض المسؤولين بالنتائج الإيجابية لهذا البرنامج الذي ساهم في إعادة بعض الإرهابيين إلى جادة الصواب ودمجهم في مجتمعهم من جديد. كان من الأصح تحوير هذه الخطوة إلى برنامج تأهيل بعد المحاكمة، وخاصة أننا جميعاً عرفنا من استغله للغوص في الظلمة مرة أخرى.
مراجعة «المناصحة» تستدعي أن يراجع النظام تعامله مع حملة السلاح ودعاة العنف، مقارنة بتعامله مع دعاة الإصلاح المدني والسلمي، رغم أخطائهم التكتيكية. وهي لا شك مقارنة تدفع بأي متحمس أو جاهل، إلى سلوك طريق الشر والهلاك. ومن الإنصاف أن نؤكد هنا، أن إنهاء بعض قرارات منع السفر التي طالت جماعة من الإصلاحيين كانت خطوة أولى موفقة ضمن المراجعة المرتجاة التي آمل أن تكتمل.
جانب المواجهة الفكرية للتطرف بحاجة إلى تفصيل، ويستدعي أن نعود بالزمن شهراً واحداً إلى الوراء، حين أصدرت الجهات الرسمية قرارين لافتين، الأول يمنع المهرجانات والعروض السينمائية في البلاد. أما الثاني، فيسمح لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدخول المتنزهات البحرية في مدينة جدة التي هي متنفس اجتماعي وترفيهي لأهالي المدينة والمصطافين من كل أنحاء المملكة.
ولو عدنا إلى الوراء قليلاً بعض الشيء، لوجدنا الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء يصف صحيفة «الوطن» بأنها صحيفة «سيئة» بسبب مقالات انتقدت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولو عدنا إلى ما بعد الخطاب الأخير لخادم الحرمين الشريفين في مجلس الشورى، سنجد الأمير يصرح بأن مبدأ التعيين أفضل من مبدأ الانتخاب، وأن تعيين أعضاء من النساء في المجلس لا ضرورة له، ولو عدنا إلى نيسان/ أبريل 2003 لوجدنا سموّه يصرح في مؤتمر صحافي: «نحن دولة سلفية».
في الحقيقة، ودفعاً لأي لبس، ليس هناك رابط مباشر أو غير مباشر بين التصريحات والقرارات السابقة، وبين محاولة الاغتيال الغاشمة، كما أنني لا أوردها من باب الانتقاص أو مصادرة الرأي الآخر، ولكنني أحسبها مقدمة جيدة، للتذكير بما يلي: لن تنجح الحرب على الإرهاب، إلا بمواجهة التطرف فكرياً بالصرامة المستخدمة نفسها في المواجهة العسكرية. وهذه المواجهة الفكرية بعيدة كل البعد عن النهج المتبع حالياً، أي المسايرة في مشروع التطرف الثقافي والاجتماعي مع تبيان خطأ حمل السلاح من زاوية فقهية، لأن هذه المسايرة التي يعتقد البعض أنها تمتص حدة التطرف، أثبتت التجربة أنها تزيد انتشاره وتمكنه من المجتمع وتدعمه بالمشروعية المطلوبة.
كتب عبد الرحمن الراشد في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 29/8/2009: «التطرف ينمو، ليس كما يروج عنه، بسبب ممارسات الناس، بل بسبب السماح له بأن ينمو... ونخشى أن فشل جماعات الإرهاب في ضرب أهدافها تقرأ خطأ بأن الإرهاب قد قضي عليه إلى غير رجعة، أو صار سهلاً منعه، وهذا ليس صحيحاً. فالمعلومات الأكيدة أنهم ينمون وينتشرون وقد بنوا قواعد لهم في المناطق المجاورة لتطويق بلد أساسي لهم هو السعودية... الإرهاب لن يختفي بدون تضافر الجميع والتضييق على التطرف، لا السماح له بالتضييق على الغالبية المعتدلة».
لن تكون هناك مواجهة فكرية ناجعة للتطرف، في ظل مناخ تشحنه فتاوى التكفير التي لم يسلم منها أهل الثقافة والفن ورجال التنوير والاعتدال، أو منابر المساجد التي تنساب بين أيدي الرقيب والحسيب، أو خطاب ديني رجعي ينتصر للصحراء على حساب المدينة، ويساير التسلط على حساب العدل، ويشحذ القيود على أجنحة الحرية، ويقمع المرأة لمصلحة الذكورة، خطاب يلتفت للماضي ليعيش فيه لا ليتعلم، ويصارع خطاب المساواة والمستقبل في حلبة ظروف غير محايدة.
لو كررنا التعريف الأكاديمي للإرهاب: «ارتكاب الجريمة لتحقيق مطالب سياسية»، يحق لنا أن نتساءل: هل أدوات التغيير وآلياته متاحة لتيارات المجتمع لتدعو إلى الأفكار التي تؤمن بها وتسعى لتحقيقها من أجل وطن أفضل؟! وخاصة أنه من حق أي كان، بل من الطبيعي، أن يتبنى أي كان، وجهة نظر تختلف مع التوجهات الرسمية ما دامت ملتزمة بمرجعية الدستور، أي النظام الأساسي للحكم.
لا أتساهل مع المسببات الاقتصادية للإرهاب أو أقدم المسببات الفكرية والمجتمعية عليها، لكني أميل إلى رأي أهل الاختصاص الذي يرى أننا لا نستطيع أن نحيل أي ظاهرة اجتماعية إلى سبب واحد، إنما هي عوامل عدة مجتمعة ومتضافرة، لا يمكن أن تفكك إلا بالرؤية الشاملة والجذرية. يقول عبد الرحمن الراشد في مقاله نفسه: «الفكر المتطرف، رغم كل ما يقال عن مواجهته، لا يزال العلة، وثبت أن مشروع المواجهة الفكرية فشل في وقت نجحت المواجهة الأمنية».
وهنا لا بد من الاتفاق مع الكاتب والتسليم والإشادة بنجاح المواجهة الأمنية، ولا بد في المقابل، من التذكير، بأنه لم تكن هناك أي مواجهة فكرية حقيقية بالمطلق مع التطرف.
إن المشروع الفكري للتطرف يرتكز على: مجافاة الديموقراطية وثقافة حقوق الإنسان والمواطنة، قمع المرأة، تجفيف ثقافة المدينة بمنابعها الفكرية والثقافية المتنوعة المتصالحة مع النفس والمتفاعلة مع الآخر وإحياء الصحراء في انعزالها وأحاديتها، والتقاط النزعة الأخروية من الفكر الديني بالتوازي مع طمس آفاقه الدنيوية، أي إعلاء قيمة الموت على قيمة الحياة.
وبالتالي، لا مواجهة مع هذا الفكر، إلا بالسير في الخيار المضاد، الخيار الأصل، المشروع النهضوي الشامل الذي يعزز ديموقراطية النظام السياسي وثقافة حقوق الإنسان والمواطنة وتمكين المرأة وإرساء قيمة القانون محل قيمة الفتوى وإطلاق الفكر والثقافة والفنون في فضاءاتها التي لا تنتهي، وهذا المشروع باركه النظام السعودي ونخبته الإصلاحية.
في كانون الثاني/ يناير 2004 عقد مؤتمر الحوار الوطني لمناقشة ظاهرة الغلو (التطرف) بدعوة من خادم الحرمين الشريفين (ولي العهد وقتها)، وقد ناقش الظاهرة نخبة من «أهل الفكر والاختصاص المعروفين بنزاهتم ووطنيتهم» كما وصفهم خادم الحرمين، واقترحوا 17 توصية لمعالجة هذه الظاهرة:
ــــ دعوة المؤسسات الشرعية للاتفاق على تحديد المصطلحات ذات الصلة بالغلو.
ــــ الدعوة لدراسة علمية شاملة ومعمقة لظاهرة الغلو.
ــــ تسريع عملية الإصلاح السياسي وتوسيع المشاركة الشعبية (عبر تعزيز المجتمع المدني وإقرار الانتخابات).
ــــ تطوير وسائل الاتصال بين الحاكم والمحكوم، والفصل بين السلطات الثلاث.
ــــ التأكيد على ضبط الشأن الاقتصادي بما يحافظ على المال العام، وتحقيق مبادئ الشفافية والمحاسبة والتنمية المتوازنة.
ــــ الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بما يتناسب والمتغيرات المعاصرة.
ــــ التأكيد على رفض الفتوى الفردية في المسائل العامة.
ــــ ترسيخ مفاهيم الحوار في المجتمع السعودي.
ــــ تطوير مناهج التعليم في مختلف التخصصات على أيدي المتخصصين، بما يضمن إشاعة روح التسامح، والوسطية، وتنمية المهارات المعرفية، للإسهام في تحقيق التنمية الشاملة، مع التأكيد على ضرورة استمرار المراجعة الدورية لها.
ــــ دعم المناشط الطلابية غير الصفية.
ــــ رصد الظواهر المجتمعية السلبية، ووضع الخطط المستقبلية لمعالجتها، بالتعاون بين الجامعات ومؤسسات البحث العلمي.
ــــ تعزيز دور المرأة في كل المجالات، والدعوة لتأسيس هيئات وطنية متخصصة، تعنى بشؤون الطفل والمرأة والأسرة.
ــــ الدعوة لفتح الباب لمن يريد الإقلاع عن العنف والإفساد في الأرض، والرجوع عن أخطائه، وعدم نبذه، والتشدد في معاملته، والعمل على إدماجه بالمجتمع.
ــــ تأمين المحاكمة العادلة أمام القضاء للمتهمين بقضايا العنف والإرهاب، وتمكينهم من اختيار محامين عنهم، يلتقون بهم كلما رغبوا في ذلك.
ــــ وضع استراتيجية شاملة تساعد على استقطاب الشباب وتبعدهم عن الغلو والتطرف وتوفير فرص التوظيف والتدريب والتأهيل والتوسع في برامج القبول في مؤسسات التعليم المختلفة.
ــــ التأكيد على التوازن في الطرح الإعلامي لقضايا الدين والوطن، ووضع منهجية علمية لذلك، مع البعد عما يثير الفرقة والشتات، ويراعي التنوع الفكري والمذهبي.
ــــ الاهتمام بالخطاب الإعلامي الخارجي وتطويره لمواجهة التحديات المعاصرة.
بعد مرور أكثر من 5 سنوات على هذه التوصيات، يبدو السؤال مشروعاً، عن مدى الجهد الجدي الذي بذلته القيادة السياسية لتحقيقها واقعاً، وهل يحق السؤال عن فشل المواجهة الفكرية في ظل عدم الالتفات أو التذكير بهذه التوصيات وتطبيقها كاملة، وخاصة التوصيات المتعلقة بالإصلاح السياسي؟
عقب لقاء الحوار الوطني الثاني بفترة وجيزة، وقعت تفجيرات (المحيا) الإرهابية في مدينة الرياض، فكتبت مقالاً عن ضرورة إحالة هذه التوصيات إلى مجلس الشورى ليضع الخطة الملائمة لترجمتها على الأرض، فتتضافر المواجهة الفكرية مع المواجهة الأمنية التي كانت في بداياتها وقتها، ولكن يبدو أن جهل القيادات التحريرية في بعض الصحف منع النور عن ذاك المقال، وأعتقد اليوم أن محاولة الاغتيال الغاشمة، مناسبة سلبية جديدة لإحياء مثل فكرة كهذه.
التمسك بالنظام الأساسي للحكم، دستور المملكة العربية السعودية، وتطبيقه كاملاً دون تعطيل أو انتقاء، عامل أساسي أيضاً في المواجهة الفكرية، نظراً لما احتواه من قواعد ذهبية ــــ على وصف الناشط السياسي محمد سعيد طيب ــــ تنتصر للإصلاح وثقافة المساواة والحياة والمستقبل، منها على سبيل المثال: «إنّ الحكم في السعودية يقوم على أساس الشورى والعدل والمساواة»، كما أن الدولة «تحمي حقوق الإنسان» و«ترعى العلوم والثقافة» و«لا يجوز تقييد تصرفات أحد أو توقيفه أو حبسه إلا بموجب أحكام النظام» و«العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي أو نص نظامي».
وأكد النظام أن «القضاء سلطة مستقلة»، ولم تفته الإشارة إلى منع التنصت على المكالمات والمراسلات، ووضح أن سلطات البلاد ثلاث (تنفيذية وتنظيمية وقضائية) وبيّن مهمّات كل منها، وأخيراً «تجري مراقبة الأجهزة الحكومية، والتأكد من حسن الأداء الإداري وتطبيق الأنظمة».
وهذا التطبيق المأمول، بحاجة إلى حوار وطني يقيّم تجربة النظام الأساسي للحكم منذ صدوره كوثيقة مرجعية ودستورية لبحث سبل استكمال تطبيقه وتطويره، إضافة إلى إنشاء محكمة عليا تحميه من الغفلة أو الهوى.
النقطة الملحة الأخيرة في المواجهة الفكرية للتطرف تكمن في رفض الحوار مع كل طرف، لا يدين محاولة الاغتيال دون قيد أو شرط، وإقصاء كل من لا يعترف بالنظام الأساسي للحكم كدستور للبلاد، والمساواة بين من يحمل السلاح في يده ومن يضع في رأسه عقل من يحمل السلاح، لأن أمثال هؤلاء لا يستحقون إلا القصاص.
وهذا التطبيق للواجب، لا يكون عبر الالتفات، أو التذرع، بدعاوى «استفزاز الشباب المسلم أو الصالح»، أو «التحذير من دعاوى التغريبيين تحت ستار الإصلاح والتنوير»، أو «أن المجتمع لا يتحمل مثل هذه الخطوات».
عندما تشاع مثل هذه التحليلات، تتصدر على الفور أسئلة بديهية تبحث عن إجابات مقنعة: لماذا نستمع للمجتمع حين يقف في وجه الإصلاح ولا نلبيه إذا دعا له؟ وهنا التذكير واجب ببيان «معاً على طريق الإصلاح» الذي تجاوز موقعوه الألف مواطن ومواطنة في أكبر مطالبة سياسية وإصلاحية في تاريخ البلاد.
لماذا يوصف أهل التطرف بـ«الشباب المسلم والصالح»، ولماذا يختصر الإسلام في تفسير شرائحه المتطرفة؟ ولماذا هذا الحرص على عدم استفزازهم بالتوازي مع عدم مراعاة الأطراف الأخرى بتاتاً؟
لماذا يوصف دعاة الحرية والعدالة والإصلاح والاعتدال والتنوير والحياة بـ«التغريبيين» في محاولة فاضحة لإعطاء الشرعية لمشروع التطرف الفكري؟ أو إضعاف أي محاولة من هؤلاء للتصدي لفكر الإرهاب وأساليبه؟ وهل هؤلاء «التغريبيون» حملوا السلاح مرة أو دعوا لحمله أو تعاطفوا مع حملته أو ثبتت عليهم محاولة اغتيال أو تفجير حتى يحذر من مشروعهم السلمي والمدني؟ أما آن الأوان لإطلاق أفكارهم الحضارية لتحقق التنوع في المجتمع وتجتث التطرف من جذوره وتحقق النهضة المرتجاة؟

لن تنجح الحرب على الإرهاب إلا بمواجهة التطرف فكرياً بالصرامة نفسها المستخدمة في المواجهة العسكرية
كل هذه الأسئلة تنتظر «الفعل» قبل أي شيء آخر، ويبدو مستغرباً هذا «التردّد» وهذا «التخوّف» في السير نحو استكمال بناء الدولة وتطويرها نحو المعاصرة والمؤسساتية التي تقف على مسافة واحدة من كل التيارات، أي إلى تعزيز النظام وترسيخه، وهو نظام متين ومتجذر، لا التمرد عليه والخروج من تحت مظلته.
هل يخشى النظام من اتهامه بـ«العلمنة» إذا طبق مشروع المواجهة الفكرية والشاملة مع التطرف؟! للأسف فإن هذا التصور يعيق حركة المواجهة مع التطرف بصورة واضحة، ولكن هناك من يتناسى، أنه على الرغم من أن النظام الأساسي للحكم يحفظ مكانة الكتاب والسنّة دون جدال، يظل نظاماً علمانياً في عيون المتطرفين، وهناك من غاب عنه، أن مواجهة التطرف، واستكمال مسيرة التطوير والمشروع الإصلاحي لخادم الحرمين الشريفين، تنقل نهاية فكرة الشرعية من شرعية «الأيديولوجيا» إلى شرعية «المواطن»، أو بالأصح، يترجمها في صورتها العصرية، وخاصة أن النظام يتمتع بقبول ورضى جارفين على المستوى الشعبي، وبالتالي، لن يهز رأي أقلية مغرضة وموتورة، مكانة النظام في قلوب مواطنيه، كما أن محاولة الاغتيال الأخيرة، أبانت بما لا يدع مجالاً للشك، أن هدف هذه الأقلية، هو ضرب نظام الحكم في المملكة لا الغيرة على الإسلام وشريعته.
يجدر ختاماً، أن أتوجه إلى مهندس الحرب على الإرهاب، الأمير محمد بن نايف، بأسطر موجزة هدفها الاحتفاء بجهوده في التصدي للإرهاب والتطرف فكراً ورجالاً حتى النهاية، وحتى نأتي على كل هذا الفكر:
يقول الإعلامي والباحث سليمان الهتلان عن مقاله الذي نشره في (واشنطن بوست) في أيار/ مايو 2002 في إحدى مقالاته اللاحقة: «شرحت رأيي في خطأ ارتكب ــــ وساهمنا جميعاً فيه ــــ بعد حادثة الحرم المكي المحزنة في أواخر 1979 وهو أننا قتلنا جهيمان لكننا، في ما بعد، رعينا فكره ونفذنا كثيراً مما كان يتمناه. لم أكن أحتاج إلى أدلة كبيرة تثبت هذه الفكرة فيكفي، على سبيل المثال، أن نقارن بين خطابنا الإعلامي ما قبل جهيمان وما بعده، وقس على ذلك برامج التلفزيون والإذاعة ومناهج التعليم وأنشطة الجامعات وثقافة المجتمع إجمالاً».
لا أريد ولا أتمنى، أن أكتب في آب/ أغسطس 2039 بأي صحيفة مقالاً يبدأ بالتالي: «مات عبد الله عسيري في آب/ أغسطس 2009 وهو يحاول، بكل خسة ودناءة، محاولته الفاشلة لاغتيال رجل الأمن المخلص محمد بن نايف، ولكنني أجدنا بعد مرور هذه السنوات، سواء عن قصد أو دون قصد، رعينا فكره ونفذنا كثيراً مما يريد».
* كاتب سعودي