معن حمية * اعتقدنا أننا سنجد في مقال رائد شرف تحت عنوان: «القومي والشيوعي 2009: الحياة وقفة بالصف» في «الأخبار»، نقداً بنّاءً وموضوعياً نستفيد منه أو نناقشه به. لكن بكل أسف، فقد حوى المقال جملة من الافتراءات والأضاليل، لسبب نجهله، أو ربما بسبب انتساب كاتبه إلى المنظومة التي تطرح شعارات الديموقراطية المزيَّفة وتدعو إلى ترقية الشعوب بهدف تحريرها من قيمها. وهي منظومة المحافظين الجدد وثقافتها التي خلّفت وراءها حروباً دموية وضحايا في فلسطين وأفغانستان والعراق ووضعت لبنان على خط الزلازل والفتن.
وليس انتقاصاً من «الأخبار»، وليس ضيقاً أو انزعاجاً من أي مقال نقدي يتناول الحزب القومي في أي وسيلة إعلامية، بل من باب الحق المشروع إنّ ثقافة «الحياة وقفة عز» مثّلت على مدى نصف قرن ونيف، حافزاً للمناضلين والمقاومين من أجل التضحية وبذل الدماء دفاعاً عن الأرض والحق والكرامة.
بكل الأحوال، لا بد من تسجيل الملاحظات الآتية:
1ــــ يبدأ شرف مقاله بالحديث عن «جبروت النظام المهيمن» وعن ثوابته اللا أخلاقية، ويقول «قد تكون المواقع الحزبية العقائدية احدى أبرز ساحات طمس قراءة منطق النظام». في الحقيقة، إن أي قارئ عادي، يجد في هذا النص، جنوح صاحبه إلى اتهام المواقع الحزبية العقائدية بالتغطية على ثوابت لا أخلاقية. علماً بأن أزمة النظام عندنا ليست أزمة أخلاقية فقط، بل هي أزمة بنيوية من جميع الجوانب، والجانب الأخلاقي جزء منها. لكن تركيز الكاتب على الجانب الأخلاقي، هو للتعمية على جوهر الأزمة البنيوية للنظام الطائفي في لبنان.
وعليه، كان حرياً بالكاتب أن يدلنا على عيوب النظام الطائفي وعوراته ومفاسده وخطره على وحدة المجتمع وعن حالات التمييز بين المواطنين وفقدان نعمة المواطنة، وأن يكشف للقارئ ولو محطة واحدة أو موقفاً واحداً، يظهر فيها أو فيه، تواطؤاً للأحزاب العقائدية المدنية الديموقراطية مع النظام المذكور أو تراجعاً عن مبادئها وعن خطابها السياسي والإصلاحي الذي يطالب بتغيير النظام الطائفي والقضاء على علة الطائفية.
2ــــ يرجع الكاتب نصف قرن إلى الوراء للمقارنة، فيكتشف أوجه شبه بين أحداث 1958 والأزمة السياسية الحاصلة اليوم. وبناءً على المقارنة، يتنبأ بتطورات كالتي حدثت في عام 1975 (الحرب الأهلية). ويعتبر ضمناً أن سلوك الحزب القومي اليوم هو عكس سلوكه 1958، زاعماً أن الحزب أصبح اليوم من أدوات النظام متجاهلاً كل الوقائع ومستخفاً بإدارك الناس الذين لم يقدم لهم برهاناً واحداً يدعم به زعمه، ومن دون أن يتحمل عناء البحث عن المسار النقدي للحزب السوري القومي الاجتماعي ومراجعته لتلك المرحلة، وهي مرحلة اعتبرتها مؤسسات الحزب خروجاً عن الثوابت الحقيقية المتلازمة مع العقيدة؛ فالحزب القومي في 1958 أحاطت به ظروف قاهرة أكرهته على أن يكون في غير موقعه، دفاعاً عن وجوده، وهو الحزب الوحيد الذي تجرأ على نقد تلك المرحلة، بخلاف العديد من الأحزاب التي لا تمارس نقداً ذاتياً لسلوكها ومواقفها، وبخلاف الكثير الكثير من الأفراد الذين يرتكبون أفعالاً مدانة ولا يندمون عليها.
وعليه، لا نستطيع فك «شيفرة» مقاربات السيد شرف ومقارناته، إلا من زاوية واحدة، وهي أنه يقرأ الأحداث والمحطات التاريخية بخفة وتبسيط، ولا يستخلص الدروس والعبر المستفادة.
3ــــ بعد المقارنة والمقاربة، قرّر الكاتب أن يتهم الحزب القومي بممارسة «القمع الوسخ» منذ التسعينيات، ويستدرك مستثنياً صفحات البطولة عند مناضلي الحزب «ضد الوجود الإسرائيلي في لبنان». وهكذا كشف الكاتب القناع عن وجهه الحقيقي، وظهر على حقيقته، شخصاً حاقداً على الحزب القومي وعلى مناضليه ويطلق اتهامات بلا دليل، كما يكشف عن الجانب الأخطر في ثقافته التطبيعية، حين ينزع عن العدو الصهيوني صفة المحتل ويصف احتلاله بالوجود. وهذا أخطر من حملة الافتراءات التي استهدفت الحزب القومي في متن المقال.
4ــــ بعد أن ينتهي الكاتب من نفث اتهاماته ومن تقديم إسهاماته في كيفية استبدال الاحتلال الإسرائيلي بالوجود الإسرائيلي، يعرج إلى الحلقات التلفزيونية التي تستضيف الطلاب ليخلص إلى أن الطلاب يعكسون الخطاب السياسي لقادتهم، وهم نسخة عنهم. وهذه خلاصة لا تحتاج إلى تعليق، لأنه من الطبيعي أن يعكس أي طالب حزبي توجهات حزبه ورئيسه وقائده.
أما استدراك الكاتب بأن في الحزب أفراداً عقائديين مضحّين، فهذا لا يبرر له اتهام الحزب بأنه حزب مليشياوي تبسيطي. وإذا كان متبرماً من ترحيب الحزب بعودة جنبلاط إلى «رشده» ــــ أي إلى الموقع الوطني ــــ فهذا ليس عيباً، لأننا كحزب نعمل من أجل أن يكون جميع اللبنانيين في الموقع الوطني والقومي المقاوم والممانع

مقال يرمي إلى تجهيل أسباب الأزمة البنيوية للنظام ويستهدف الحض على الفتن الداخلية

لإسرائيل. فالحزب القومي هو حزب المقاومة والصراع ضد العدو الصهيوني، وحزب وقفة العز. وقد فات شرف تناول هذا الموضوع الجوهري، فلم يتناوله لا من قريب ولا من بعيد، ويبدو أنه غير معني بالأخطار التي تتهدد لبنان من العدو الإسرائيلي ولم يهتم بـ«مشروع الشرق الأوسط الجديد» الذي كان جزءاً أساسياً من مشروع الحرب التدميرية التي تستهدف خراب لبنان.
أما الذي لم نتمكن من معرفته، فهو رأي الكاتب في موضوعة خيم «الحرية» من الناحية الأخلاقية ما دام قد اكتشف ثوابت النظام اللا أخلاقية، وخصوصاً بعدما أخبرنا رأيه بتلك الخيم وبأنها من مظاهر العمل الطلابي المستقل وبالحزن الذي اعترى وجوه الطلاب يوم «رفع الخيم».
باختصار، المقال لا يحوي أي نقد موضوعي، لا للأوضاع القائمة على الصعيدين المحلي والقومي ولا للأحزاب ومواقفها منها، بل هو عبارة عن شتائم، وهذا الأسلوب هو جزء من منظومة التشهير التي اعتمدتها قوى 14 شباط خلال السنوات الخمس الماضية، والتي اشتركت في صياغتها جهات دولية تتبع مباشرة لفريق المحافظين الجدد.
وواضح، أن المقال يرمي إلى تجهيل أسباب الأزمة البنيوية للنظام، ويستهدف كذلك تسميم البيئة الداخلية الوطنية والحض على الفتن الداخلية، ويسير في الاتجاه نفسه الذي يرمي إلى نشر ثقافة التطبيع ونزع صفة الاحتلال عن العدو الإسرائيلي، واعتبار التعامل معه وجهة نظر.
لا شك بأن «الباحث اللبناني» السيد شرف منهمك حالياً على ما يبدو من مقالته في تكوين ملفات محاكمات تاريخية للأحزاب اللبنانية المقاومة والإصلاحية، وهو يجمع في مهمته هذه بين أدوار المدعي والمحقق والقاضي الديان، غير آبه بكل ما يدور في المنطقة من مشاهد وفصول خطيرة تتناول حياة كياناتنا السياسية ومواطنيها ومستقبل أجيالها.
وما يثير الدهشة في مقال هذا «الباحث» هو تناوله أعرق حزبين في لبنان، وأكثرهما تعرضاً للاضطهاد والتنكيل، ومحاولات التهميش من النظام اللبناني وأركانه الطائفيين التاريخيين، من دون أن يعير أحزاب هذا النظام أي اهتمام بنقده وملاحظاته.
وإن كان الحزب القومي والحزب الشيوعي قد أخفقا من وجهة نظره في تجسيد راديكاليتهما أحياناً، فكم ينطبق على هذا «الباحث» في مجال النضال السياسي والشعبي والإصلاحي والمقاوم المثل المأثور: «النقد يسير، أما الإبداع فمضن وعسير».
وإن آفة الأمة الكبرى تكمن في هذه الفئة من «الباحثين» و«الناقدين» و«المثقفين» الذين يكتفون من مقارعة التنين بالتفرج من على شرفاتهم العالية، على الذين يصارعونه.
* مدير دائرة الإعلام
في الحزب السوري القومي الاجتماعي