سلامة كيلة *رغم مرور عام على تفجّر الأزمة المالية العالمية، يجب أن نطرح السؤال عن طبيعتها، إذ إن الإجابات خلال الأشهر الماضية انحصرت في الغالب في مستوى «أخلاقي» أو مالي. فقد ألقي اللوم على كبار المديرين الذين تصرفوا برعونة، أو أنهم اندفعوا في المضاربات دون ضوابط للحصول على المكافآت المجزية. أو بُرّرَت بالإشارة إلى الاندفاع في الإقراض دون ضمانات كافية. كما أن الأوروبيين عموماً ألقوا اللوم على النظام المالي الأميركي، وأشاروا إلى «أخطاء المراكز المالية العالمية»، أو حمّلوا «تحرير الفضاء المالي» منذ بداية السبعينات (أي حينما فكت أميركا الربط بين الدولار والذهب متخليةً عن اتفاق بروتن وودز) مسؤولية تفاقم المضاربات المالية.
وإذا كنا لا نعتقد بأن المسألة هي مسألة أخطاء أو أخلاق، بل على العكس من ذلك، فهذه الأخطاء هي ضرورة، يفرض سؤال نفسه: لماذا كان «تحرير الفضاء المالي»؟ ولماذا نشأت المضاربات والإقراض عالي المخاطر؟ ولماذا نشأت الصناعة الكاملة من مشتقات تغطية المخاطر؟ ولماذا تحرير أسواق السهم؟ هل كان الربح هو الدافع الأول لكل ذلك؟
ربما لا يُشَكّ في أن الربح هو أساس نشاط الرأسمالي، وهو غايته القصوى. لكن الرأسمالي يهدف إلى الربح دون مخاطر، وهو يحرص على الحساب الدقيق والدراسة المستفيضة، بالتحديد من أجل الربح. وبالتالي يصبح السؤال الأساس هنا هو: لماذا اختار المخاطر من أجل الربح؟ لماذا تنازل عن كل حساباته ودخل في آليات اقتصادية عالية المخاطر؟
إنّ الإجابة بأن الربح هو ما دفع إلى ذلك تبدو ساذجة، حتى حينما يشار إلى أن نسبة الربح في هذا النشاط أعلى بكثير منها في الاقتصاد الحقيقي. وأصلاً لماذا يكون الربح هنا، وفي قطاع غير منتج بل يعتمد على المضاربة، أعلى منه في القطاعات المنتجة؟ لماذا يصبح «اللاعمل» هو الذي ينتج الربح على عكس الوضع في الاقتصاد الحقيقي؟
إن زيادة نسبة الربح في «سلعة» ما هو نتاج ندرتها، أو ضخامة كمية النقود المعروضة. وحين نلمس أن نسبة الربح في قطاع المضاربات باتت أعلى، فإن السبب يكمن في أن كمية النقود المعروضة كبيرة قياساً بالاقتصاد الحقيقي. لهذا نلمس ارتفاع قيمة أسهم الشركات والبنوك، لأن كمية النقود الداخلة في المضاربة أضخم من قيمتها الحقيقية. وهذا يفسر سبب ارتفاع قيمة أسهم الشركات والبنوك والعقارات دون أن يبذل مجهود غير طبيعي. بمعنى أن السبب الذي دفع إلى النشاط في هذه القطاعات، وبالتالي الميل إلى تحرير الفضاء المالي، ورفع احتمالات المخاطر، هو وجود كتلة مالية لا تجد مجالاً لنشاطها في الاقتصاد الحقيقي. فوجودها هو الذي جعل التناسب بين العرض والطلب مختلاً لمصلحة الطلب. وبالتالي، أصبحت أسهم الشركات تتعرض لطلب كثيف، مما كان يجعل أسعارها ترتفع بشكل جنوني، الأمر الذي كان يؤدي إلى تحقيق نسبة ربح أعلى في سياق تصاعدي هائل.
لهذا يجب أن نبدأ البحث عن وجود هذه الكتلة الضخمة من المال (الذي لم تعد رأسمالاً لأنها خرجت من ميدان الإنتاج المباشر). فوجودها هو الذي يفسّر كل السياسات المالية التي جرى اتباعها منذ بداية سبعينات القرن العشرين، والتي فرضت تعميم البورصات وعولمتها، والفرض على البنوك التقليل من التشدد في الإقراض، واختراع أشكال متعددة للمعاملات المالية، والمضاربة على العملة، وكل ما أشير إليه في سياق الحديث في الأزمة المالية الراهنة. وهي الأشكال التي كانت تقود حتماً إلى الأخطاء والشره والتهور والرعونة، وكل ما يمكن أن يذكره أي تقرير تقويمي سطحي للأزمة.

أصبح المال ضد رأس المال ولم يعد من مخرج من ذلك في الإطار الرأسمالي

إنّ تفسير السياسات المالية المتبعة منذ السبعينات يجب أن ينطلق من تفسير السبب الذي بات يفرض نشوء كتلة مالية ضخمة تبحث عن التوظيف، حيث إن نشوء هذه الكتلة هو الذي بات يفرض سياسات مالية مختلفة ومناقضة للسياسات الاقتصادية التي يعرفها «علم الاقتصاد»، والتي تتعلق بما بات يسمى: الاقتصاد الحقيقي، أي الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات. وهو الأمر الذي أسس لنشوء مفهوم الاقتصاد الافتراضي من خلال المضاربة في الأسهم والعملة والديون... ليتشكل نشاط اقتصادي ضخم، هو بما لا يقاس مئات أضعاف الاقتصاد الحقيقي.
الأزمة هي أزمة التناقض بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد الافتراضي، بين الرأسمال الذي ينتج فائض القيمة والربح والمضاربة التي تضخم من قيم الشركات والبنوك بما يخلق هوّة ضخمة بين سعرها وقيمتها الحقيقية. وهو الأمر الذي يخلق ضغوطاً ضخمة على هذا الأخير نتيجة هذه الهوّة بالذات، حيث تؤدي الأزمة إلى انهيار قيم الأسهم، وبالتالي الشركات. وعملية المضاربة هذه هي شكل حديث من أشكال النهب التي تتسم بها الرأسمالية، حيث إن الأزمة تمتص التراكم المالي لدى الفئات المتوسطة التي تغامر في الدخول في أحد أشكال المضاربة تلك. وهو الأمر الذي يدمّر القدرة الشرائية لقطاعات واسعة لا تعود تستطيع شراء الكثير من السلع الرأسمالية.
الأزمة إذن هي بالأساس في التراكم المالي الذي يخرج من دائرة الإنتاج، أو من دائرة الاقتصاد الحقيقي، والذي يصبح عبئاً على الاقتصاد. ولكن، لماذا يخرج من هذه الدائرة؟ ربما كان هذا هو السؤال الجوهري، ويمكن أن نجيب ببساطة لأن هذه الدائرة قد أُشبعت ولم يعد ممكناً التوظيف فيها. وهذه من سمات الرأسمالية، التي تدفع بها نحو الأزمة الشاملة. حيث إن فيض الإنتاج الذي تتسم به الصناعة (وما انعكس على الزراعة كذلك) يفرض التمركز، وبالتالي حصر القطاعات المنتجة في عدد محدود، في شركات محدودة يكفي إنتاجها كل العالم (وفق القدرة الشرائية)، وبهذا لا يعود ممكناً التوظيف في شركات جديدة، وإن حصل، فسوف تتعرض للمنافسة الشديدة وبالتالي الإفلاس.
ولأن الرأسمالية تراكم الأرباح نتيجة نهب الفائض، في المراكز وفي الأطراف، تستحوذ على كتلة مالية أضخم من تلك التي تحتاج إليها في التوظيف في الاقتصاد الحقيقي. وهي هنا تمتص الفائض من الطبقات العاملة ومن الشعوب المفقرة فتضعف مقدرتها الشرائية، وبالتالي تقلص من فرص الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي. لكنها في الوقت ذاته تراكم الفائض مما يجعله يعود مالاً لأنْ لا مجال لاستثماره في الاقتصاد الحقيقي. وهو الأمر الذي يغرقها في أزمة لا تني تتعمق وتتوسع. فنحن نلمس الضخامة التي وصلها المال المتراكم بالقياس إلى الرأسمال الموظف في الاقتصاد الحقيقي (حسب الأرقام، هناك ألفا ترليون دولار، هو المال المضارب، بالقياس إلى 44 تريليون دولار هو حجم الاقتصاد الحقيقي). لقد أصبح المال ضد الرأسمال، ولم يعد من مخرج من ذلك في الإطار الرأسمالي، حيث إن الرأسمال لا يزال يجلب الأرباح عبر نهب الفائض من جهة، والمال بات يتضخم بشكل وهمي بطريقة تصاعدية متسارعة، وهو يكاد يستقل عن الاقتصاد الحقيقي من جهة أخرى. والقول إن الأزمة بنيوية يشير إلى ذلك.
* كاتب عربي