سعد الله مزرعاني *منذ أسابيع قليلة كان التحذير من الفتنة (الفتنة المذهبية خصوصاً) أمراً مستغرباً. تسابق كثيرون على نفي احتمال حصول اضطراب أمني كبير في البلاد. ذكّر هؤلاء بأنّ مناخ المنطقة إلى تراجع لجهة التوتر وحدّة الصراع. استندوا في ذلك إلى أنّ المشروع الأميركي الذي حمل عنوان «الشرق الأوسط الكبير» قد استنفد قدراته الهجومية وتحوّل إلى التراجع والانكفاء. أضافوا إنّ ثمّة بداية مصالحات وحوارات بين الأطراف الدولية والمحلية التي كانت تتصارع على كلّ شيء.
لفتوا أيضاً إلى حوارات ولقاءات تحصل بين الأطراف المحلية المنقسمة في محاور إقليمية أو المستقطبة في المحاور الدولية.
لاحظ هؤلاء أيضاً، أنّ انفراجات واضحة بدأت تشقّ طريقها إلى الوضع اللبناني كانعكاس لما تقدّم من مصالحات وحوارات بين القوى المتصارعة. لاحظوا بروز هذه الانفراجات، جزئياً، في مرحلة الانتخابات النيابية اللبنانية (انتخابات طرابلس خصوصاً). كما لاحظوا تجسّدها في المرحلة الأولى من محاولة تأليف الحكومة باعتماد قاعدة 15-10-5 كصيغة للمحاصصة وللتوازن وللتعايش وللصراع...
كلّ ذلك دفع هؤلاء إلى الاعتقاد بأنّ الوضع اللبناني مغلق حاليّاً على التوترات الكبيرة، وعلى التصعيد المنفلت، وعلى الفتنة.
كلّ ما تقدّم صحيح. إنّه حاضر ومؤثّر في المشهد العام القائم في المنطقة وفي لبنان. لكن ذلك لا يختصر هذا المشهد، وخصوصاً على المستوى اللبناني. لنبدأ من أنّ الصراعات في المنطقة قد تراجعت في حدّة أساليبها ووسائل القوة والعدوان المستخدمة فيها، لكنّها لم تتوقّف ولم تنتهِ بالتأكيد. ثمّ إنّ بعض ما بدأ من تحوّل وجنوح نحو حوار لم يصل إلى خواتيمه السعيدة في توليد تفاهمات، وما حصل من ذلك لا يتعدّى بعض الانفراجات الأمنية الطابع (وخصوصاً بين سوريا والسعودية). هذا إضافةً إلى أنّ هذه الانفراجات لم تشمل قوى مؤثّرة أخرى في معادلة الخلاف والاتفاق، كمصر مثلاً، التي ما زالت قيادتها تواصل الأجندة السابقة، دون تعديلات ذات شأن، ولا سيّما في علاقاتها العربية والإقليمية (مع سوريا وإيران، وعلى المستوى الفلسطيني والإسرائيلي والقطري...).
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإنّ وضعها المتراجع يفرض تشديد دفاعاتها ولا يلغيها. وهي فعليّاً، بصدد تثبيت أوراقها وتعزيزها في أكثر من بلد في المنطقة من أجل تخفيف خسائرها، ومن أجل محاولة تحقيق انتصار عسكري وسياسي في أفغانستان، ومن أجل تعاطيها مع المنطقة وملفاتها المتعدّدة...
ومن جهتها، تعتمد القيادة الإسرائيلية سياسة تطرّف وتشدّد وعنصرية وأصولية مفتوحة على كلّ أشكال العدوان من لبنان إلى سوريا إلى إيران...
وأحد الأسلحة الأكثر استخداماً، وخصوصاً من جانب المحور الأميركي ـــــ الإسرائيلي ـــــ العربي الحليف لأميركا، هو تأجيج الانقسام المذهبي ودفعه إلى الحدّ الأقصى عبر محاولة إحلاله محلّ الصراع الفعلي القائم، الذي يجب أن يتصاعد ضدّ مشاريع الغزو والأطماع الأميركية، وضدّ مخططات العدوان والانتقام والعنصرية الصهيونية.
في مجرى هذا الصراع، ولأسباب ناتجة من تناقضات الوضع الداخلي اللبناني نفسه، يبدو لبنان ساحة مفتوحة على التوتر والتصعيد، أخذاً بعين الاعتبار ما تقدّم ذكره من عوامل الصراع وأساليبه في مرحلته الراهنة.
الانقسام هو ميزة الوضع اللبناني عموماً، وفي مراحل الأزمات الداخلية والخارجية وتفاعلهما، خصوصاً. والانقسام المذهبي هو ميزة هذه المرحلة بامتياز. ولقد شهدت الانتخابات النيابية الأخيرة ذروة أيضاً في هذا الشأن: ففي تلك الانتخابات جرى دفع العصبيات المذهبية إلى الحدّ الأقصى. وقد فُعل ذلك بطريقة بالغة التأثير والخطورة (والنجاح!) عند الفريق المرتبط بعلاقة تحالف وتعاون مع المحور الأميركي (ومحور «الاعتدال» العربي).
وفي مجرى التعبئة التي اعتمدها هذا الفريق، استُعيدت مشاهد وذكريات طرية ومؤثّرة عاطفيّاً وعصبيّاً على أوضح وأوقح وأخطر ما تكون الاستعادة. الطرف الآخر أيضاً واجه بالأسلوب نفسه في الجوهر، وإن تفاوتت الوسائل في الحدّة وفي التوظيف وفي الاستهداف وفي الوجهة.
ذلك يعني على المستوى الإقليمي عموماً، وعلى المستوى اللبناني خصوصاً، أنّ عناصر الصراع قائمة وكامنة، وإن خفتت قليلاً أو كثيراً لهذا السبب الخارجي أو الداخلي أو ذاك. وفي ظروف لبنان بالتحديد، فإنّ عوامل الفتنة حاضرة كما أشرنا. وهي من النوع الذي يمكن إيقاظه رغم ما سينصبّ على الفاعل من لعنات لا تقدّم ولا تؤخّر!
ويستدعي المنطق أن ندفع هذا التقدير إلى مداه الطبيعي: إنّ إشعال الفتنة المذهبية في لبنان، هو هدف كبير لإسرائيل بالدرجة الأولى، وذلك لاستنزاف المقاومة وإغراقها مذهبياً وصرفها عن توجيه جهدها ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وهو كذلك سلاح في يد طرف إقليمي يمعن في سياسة بناء تحالفات والتزامات وأهداف تكرّس

أزمة الحكومة تشير إلى حدّة الانقسام وإلى تواضع تأثير الانفراجات الإقليمية

تخلّيه عن القضايا القومية المصيرية (فلسطين والثروات العربية وقضايا التنمية...) وتقرّبه أكثر فأكثر من العدو الصهيوني. يُضاف إلى ذلك الدور المساعد الذي تؤدّيه قوى متطرّفة، وعبثية، تبحث لها عن مواقع وعن دويلات أو عن «إمارات» في لبنان. وهي قوى موجودة على ضفّتي الصراع. وبعض هذه القوى بات يجاهر علناً بيأسه من استعادة مشروع الهيمنة. وهو يكرّر اليوم التذكير بأنّ الانقسام في لبنان يتناول خيارات استراتيجية، وأنّه غير قابل للحل، ما يفسح المجال «منطقيّاً» أمام طروحات التقسيم بكلّ صيغها بعد تعذّر التقاسم! ولقد تعزّز هذا التوجّه لدى البعض، بعد تحوّلات موقف رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي الأستاذ وليد جنبلاط. وطروحات من نوع عودة «التحالف الرباعي» (ذي التركيبة «الإسلامية») بدأت تزيد من هواجس وذرائع الفريق المذكور.
أزمة تأليف الحكومة (حتى لو جرى تأليفها في وقت قريب أو بعيد) تشير إلى حدّة الانقسام وإلى تواضع تأثير الانفراجات الإقليمية (وخصوصاً في العلاقات السورية ـــــ السعودية)، قياساً إلى حجم ما زال قائماً وفاعلاً فيها من صراعات وتناقضات.
يطرح ذلك جملة مهمّات عامة وخاصة. والمقصود بالعامة هو ضرورة ارتفاع مستوى اليقظة والحركة لدى الأوساط السياسية والشعبية اللبنانية المتضرّرة من عودة التوتر ومن التلويح بالحرب الأهلية ومن ارتفاع نبرة الفحيح المذهبي! أما المقصود بالمهمّات الخاصة، فتلك التي تقع على عاتق فريق من القوى المتصارعة، ممّن بات عليه أن يدرك أنّ الحدّ «الإيجابي» (نسبيّاً) للتعبئة المذهبية، قد انتهى، وأنّ تلك التعبئة أصبحت ورقة صافية، خالصة، في يد أصحاب مشاريع الهيمنة على المنطقة، وخصوصاً الأميركيين والصهاينة وأتباعهم المحليين.
وفي وسط كل هذه التعقيدات تتوجّه الأنظار مجدّداً (أو يجب أن تتوجّه) إلى القوى السياسية ذات البرامج والأهداف الوحدوية الديموقراطية واللاطائفية. إنّها قوى ضعيفة وقليلة المبادرة أيضاً، وهي تنتقل في أزماتها من طور إلى طور أعلى. هذه القوى أمام مسؤولية تاريخية هي الأخرى، في المساهمة في تفعيل المواجهة مع قوى الهيمنة والعدوان والاغتصاب والتخلف والانقسام.
* كاتب وسياسي لبناني