إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

يبدو أن الوقت قد حان للبحث عن إطار نظري «عصري» لترتيب وضع المنطقة وقراءة ما يجري فيها، بعيداً عن مفاهيم الشرق الأوسط، جديداً كان أو واسعاً، وبالتأكيد بعيداً عن «الحلم العربي» بأمة تجمع الناطقين بلغة الضاد من المحيط إلى الخليج، بعدما أصبحت مهمة إلغاء المؤسسات والآليات التي أقيمت على حجته، فرض عين. 22 دولة عربية تجلس عبر ممثليها، ومعظمهم وزراء خارجية، تحت قبة الجامعة العربية السيئة الحظ، لبحث أزمة دبلوماسية مستعرة بين اثنين من أكبر أعضائها (العراق وسوريا)، يرعى حلها ضيفٌ تركي. النتيجة كانت أن يتولى هذا الأخير مهمة معالجة الملف في بلده (تركيا) وفق إطار يضمّ ضيفاً «لا بيهش ولا بينش»، ليس سوى «السوبرمان» عمرو موسى عظّم الله أجره.
إعلان الوزراء العرب تبنّيهم المبادرة التركية لا يغيّر في الواقع شيئاً. وحديث وليد المعلم عن حل «عربي إقليمي» إنما يؤكد البعد الثاني لا الأول. أصلاً لم يتحرك عند اندلاع الأزمة سوى البعد الإقليمي هذا عبر مبادرتين قام بهما أحمد داوود أوغلو ومنوشهر متكي، كل على حدة.
الوساطة التركية في الملف السوري ـــــ الإسرائيلي كانت مبرراتها مختلفة: العلاقة الجيدة التي تربط أنقرة بكل من دمشق وتل أبيب. لكنها في الملف السوري ـــــ العراقي تحمل معاني مختلفة: باتت تركيا لاعباً أساسياً على الساحة العربية (عفواً الإقليمية) لا يمكن تجاوزه. وبات العرب أمماً عاجزة عن التحاور إلا برعاية طرف ثالث. هي أيضاً تعبير عن غياب الثقة بالأطراف العربية الغائبة بدورها عن العراق، الذي كفر ذات يوم بالعرب، ويبدو أنه لا يزال على موقفه هذا.
رب قائل إن نعي العروبة ليس بالأمر الجديد. إن أحلام خمسينيات وستينيات القرن الماضي قد تحطمت عند أكثر من مفترق طرق، كان لمعظمها علاقة بالمستعمر الغربي أو المستوطن الصهيوني.
صح بالتأكيد. لكن منطقة ما بين الماءين تلك ظلت خلال القرن العشرين تخضع لهيمنة عربية أو بالأحرى لمرجعية عربية (تناوبت عليها القاهرة والرياض وبغداد)، وضبط إيقاعَ الحركة فيها في أواخره ما كان يُعرف بالمثلث المصري ـــــ السعودي ـــــ السوري. كانت خلافات العرب وانقساماتهم، التي لا شك في أنها شلّت «الأمة» وسبّبت الكثير من المآسي لشعوبها، تحكمها أطر عربية، وإن عجزت في معظم الحالات عن حلها. كانت الوساطات عربية في الأساس، وإن تدخّلت فيها أطراف دولية، أو انتهت بحرب أممية على غرار ما جرى في الأزمة العراقية ـــــ الكويتية.
ورب قائل، عن حق أيضاً، إن إرهاصات ما جرى أخيراً بدأت مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، الذي حمل معه بذور انقسام عربي عمودي ظهر مع غزو بلاد الرافدين وبلغ أوجه مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومؤشرات إلى سقوط المحرمات في العلاقة ما بين «الإخوة»، وانقطاع عرق الحياء الذي كان يضمن بالحد الأدنى التضامن الشكلي واللفظي في ما بينهم. بل حمل معه تبدلاً في موازين القوى في المنطقة لمصلحة «الأعاجم» إلى أن قيل إن الهيمنة انتقلت من أيدي المثلث العربي السالف الذكر إلى المثلث الإيراني ـــــ التركي ـــــ الإسرائيلي.
كل ذلك صحيح. لكن ما حصل خلال الأيام الماضية في أروقة الجامعة العربية، التي من المفروض أنها العباءة التي تجمع العرب وترعى خلافاتهم، إنما هو إعلان عن بلوغ نهاية الطريق إلى مدفن كتب عليه: «هنا يرقد الحلم العربي 1945ـــــ 2009». وهي نهاية تستوجب سلسلة من الإجراءات، في مقدمها تعديل في المصطلحات، مثل «العالم العربي» و«المنطقة العربية».
سبق أن جرت محاولة كهذه منتصف التسعينيات في أعقاب مؤتمر مدريد واتفاقات أوسلو. وقتها خرجت نظرية «الشرق الأوسط الجديد»، التي كانت تستهدف استيعاب إسرائيل في العالم العربي. المنظّر أشهر من نار على علم، شمعون بيريز، الذي بنى رؤيته على ثالوث التقانة الإسرائيلية واليد العاملة المصرية والأموال الخليجية، التي سعى إلى المواءمة في ما بينها على قاعدة أنها الضمانة لأن تعيش شعوب المنطقة بسلام وأمن وازدهار جنباً إلى جنب.
وفي أعقاب هجمات 11 أيلول، جرت محاولة مشابهة، أميركية المصدر هذه المرة، تتحدث عما سمّي وقتها «الشرق الأوسط الواسع»، الذي يمتد إلى أفغانستان وباكستان شرقاً، وإلى المغرب العربي غرباً. منطقة أرادتها الولايات المتحدة منطقة نفوذ خالية من الأنظمة الاستبدادية ومن أسلحة الدمار الشامل. رؤية ترافقت مع النزعة الأميركية لنشر الديموقراطية وحملات البحث عن «إصلاحيين» في العالم العربي.
اليوم، بعدما أضحت إيران، بنفطها وبرنامجها النووي، قوة عظمى في المنطقة، تمتد أذرعها من العراق حتى فلسطين ولبنان، ويتوزع نفوذها في كل حدب وصوب، حتى بلغ مصر واليمن! وأصبحت تركيا قوة فاعلة وجزءاً لا يتجزأ من المعادلة الإقليمية. ومع انقسام العرب إلى معسكرين (معتدل وممانع) أشبه بخطين متوازيين لا يلتقيان إلا بإذنه تعالى، ووفاة حلمهم واهتراء مؤسساتهم، يبدو أن الساحة قد باتت مفتوحة للخروج بنظرية جديدة، تعتمد مفهوم «الأقاليم» إطاراً لها: إقليم شمالي بزعامة إيران بالتحالف مع تركيا (أردوغان) وعضوية الممانعين. وإقليم جنوبي بزعامة إسرائيل بالتحالف مع مصر والسعودية وعضوية المعتدلين.