أنسي الحاج

■زمان طلال حيدر



الشعر تبادُل. بعضه يتعامل بالنغم وبعضه بالمعنى، وبعضه بذَهَب نفسه، وهذا شعر طلال حيدر. ديوانه الجديد («سرّ الزمان»، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) يواصل نشر مناخه: الحنين والحنان وغَصَص الوجود الجريح بين حلم وحلم. لا أثر هنا لرماد أو خفوت، فكلّ شيءٍ يتوهّج.
أتيح لي أن أسمع، في مجلس خاص، كلّاً من ميشال طراد وطلال حيدر يلقي شعره: تتجسّد الكلمات على لسانهما تَجسُّدَ الروح في قرابينها. لا تعود تعرف أبالمحكيّة يتفوّهان أم بمنطق الحواس والجوارح وقد تلاقت أطرافها. في هذا الشعر ترجع العناصر إلى أعشاشها، تغتسل أعتق الألفاظ بمعموديّة جديدة ويصبح الشعر، الشعر بمعناه الأصليّ، هو اللغة.
منتهى كَرَم الشاعر أن يعتبر جميع الناس شعراء. شعر طلال حيدر يخاطبنا كإخوة. من الصعب كتابة المحكيّ دون مبالغات، ومن الصعب كتابة الحنين دون أن يظهر على الصيغ والألفاظ شيءٌ من التكلّف، إلاّ على يد الصائغ الماهر. في شعر طلال حيدر يسيل الكلام كالماء والهواء، ولا تعود المبالغة مبالغة، بل تصبح سخاء، ولا يعود السخاء مبالغة، بل الحياة متدفّقة في تجاوز نفسها.
شعره أغنية كيفما جاء. إغراءٌ لا تعرف شيطانه من ملاكه. انطباعيّة يتداخل فيها الحدس والذكاء، الطفولة ولوعة التجربة. ثم نداءٌ لا يتوقّف، نداءٌ إلى غايات لا حدود لها.
دائماً عرفتُ طلال حيدر ودائماً أدهشني. يحمل معه الحياة حتّى داخل العدم. زوربا بعلبكي. موجود في شعره، وعلى أسطوانة غادة غانم وفي صفاء صوتها، كما هو موجود في فكرة جميلة عن الحياة، ممزوج بهواء الرقص وبرغبة نسيان لا يتحقّق.
يتألّم طلال حيدر في مستهلّ ديوانه لكون العرب لم يعترفوا بالمحكيّة «كلغة إبداع». وهو على حقّ. ولكن مَن ينتظر ماذا في مملكة الشعر؟ أحد مصادر القوّة في أي شعر، بل في أي نتاج فنّي، هو ما كان فيه عصيّاً على الإلحاق، حتّى لو اكتسى هذا الإلحاق حلل التمجيد ولم يقف عند حدود الاعتراف. لقد أردنا للشعر، بتحرّره من الأوزان التقليديّة، أن يضيف إلى نهر الأدب روافد. وأمّا المحكيّة فلم تنتظر أحداً لتفرض نفسها في كلّ ميدان من المجتمعات العربيّة على اختلاف محكيّاتها، بل كانت دوماً هناك، ونجمتها بالطبع قصائدها: «... وطارت عصافير الأساور/ ما حدا ردّا...».
الشعر هو اللغة. ليست اللغة أمّ الشعر بل الشعر هو أبو اللغة. بأيّة حروف، بأيّة صيغة جاء، حين يكون الشعر، يحضر ويحضر وحده. وإذا كان بصمت اللسان وسكون العينين يحضر، أفلا يحضر بلسان المحكيّة، وهو الألصق بالينابيع؟ وإذا كان المطلوب الرواج، فاللحن والغناء كفيلان بإيصال المحكيّات إلى الأذن مهما اختلفت عاداتها، وهذا المحكي الخليجي أمامنا أكبر برهان، وقبله اللبناني، وقبلهما المصري، إلخ... وما من قصيدة لطلال حيدر إلّا يعشقها الغناء.
«صوتِكْ حلو
متل البنات الفَتّحوا شبابيك المنامات
تيمرقْ هوا
ولولا مَرَقْ
كان الهوا تشلّعْ

صوتِك حلو
خلّا المغربْ ع الشجر يطلعْ
تينزّل العتمة
أحلى م تنزل لحالا
بالهوا وتوقعْ

(...) كان يلعبوا الولاد
وكان العمر يلعب معن
ومرّات ما يرجعْ
ليش الولاد بيركضوا بس يفرحوا؟
اللي بيركض بنومُه
بيضلّلو مطرحه».

حتّى لو تقمّص المرء عشرات المرّات، لن يكون هناك غير حياة واحدة. ولن تعرف تلك الحياة أجمل من رعشة الشعر.

■خيبات المطالعة



أكثر ما يضايق، لدى مطالعتنا قصّة، هو الإحساس بأنه سبق لنا قراءة قصص مماثلة. وأكثر ما يضايق في هذه المضايقات هو أن يكون ما نقرأه موسوماً بالجديد، فلا يعود يطاق طعم المرارة. فإذا كان الجديد تقليداً فأين المفرّ؟
ولا تقتصر هذه الخيانة على القصص العربيّة، فمعظم القصص الحديثة الصادرة في باريس، مثلاً، تكاد تكون طبق الأصل بعضها عن بعض. وأمّا الأفلام السينمائيّة فتأخذ منها الفيلم الأم والباقي مستنسخ مع تغيير الممثلين.
لا يسافر السائح إذا كانت المناظر الجديدة أمامه شبيهة بما يعرفه.

■الأخطاء الضائعة



حين يستجمع ذكرياته، يميل المرء عادةً إلى تفسير الحوادث محرّفة، فيعتبر، مثلاً، أنه هو صاحب القرار في ما كان، في الواقع، مصادفة، وأنه اتخذ هذا الموقف أو ذاك بعد تفكير طويل، بينما كان في الحقيقة إمّا مفروضاً عليه وإمّا سيق إليه بحكم التيّار، أو كان، بكل بساطة، جزءاً من وظيفة.
كثيرون من كتّاب المذكرات يفسّرون مواقفهم بعد مرور الزمن عليها، تحت ضغط الحاجة إلى تجليس صورتهم للتاريخ. قلّما يسجّل أدباؤنا ومفكرونا، عندما يكتبون ذكرياتهم، على أنفسهم خطأ. الذي كان شيوعيّاً وتراجع عن شيوعيّته يضع اللوم على الاتحاد السوفياتي أو قادة الحزب الشيوعي المحلي ولا يذكر لنفسه خطأ، سواء من حيث الرؤية أو الممارسة أو رخاوة الطبع. كذلك البعثي والقومي والناصري والعرفاتي وغداً الإسلاموي. له الحسنات والتضحيات والآخرون هم المخطئون والمقصّرون. لم أقرأ مذكرات عربيّة فيها اعتراف بالخطأ، اللّهمّ إلّا ذلك النوع الكاذب من الاعتراف الذي يراد به ستر ما هو أسوأ منه وإحكام التسديد على الأخصام.

■أقول الشيء وعكسه



لفتني صديق إلى أنّي أقول الشيء وعكسه. خصلة سيّئة جدّاً. وفي مجتمع كمجتمعنا، خطيئة ضد السلامة العامة. فهل أسوأ من أن تستمع إلى هذا الفريق فتعطيه الحق ثم تستمع إلى خصمه فتعطيه الحق أيضاً؟ لعلّ السبب ارتخاء الإرادة. وأيّاً يكن، وحتى لو كان سبباً فاضلاً كالرأفة أو المسالمة، فلا عذر له.
كنت سأقول: أرجو أن لا تكون هذه السيّئة موجودة في كتاباتي كذلك، ولكن ما الفائدة من هذا الرياء وأنا أعلم أنها موجودة؟
في الماضي كانت أقلّ. لعلّه الانكسار.


عابـــــرات

الوفاء للذات إعلان حرب.
■ ■ ■
محاولة الإجابة بالكتابة عن أسئلة الحياة. حصراً بالكتابة. اعتبارها في موازاة الحياة. وأحياناً بديلاً من الحياة. هل هذا معقول؟ ممكن؟
على كلّ حال هذا هو الحاصل. حتّى عندما لا يكون لدى الكاتب ما يقوله غير التساؤل وعرض المشكلات. وكلّما تمادى صمت الموجَّه إليه السؤال تفاقم عمى بصر السائل وتَزايَد احتدامُ فكره، إلى أن يصبح الموقد والوقود واحداً والسؤال هو نفسه الجواب.
■ ■ ■
«ما عدتُ أعرف إن كنت أتنفّس موسيقى أو أسمع عطوراً».
(غي دو موباسان)
■ ■ ■
يُخجلك عطاء تستحقه ويخجلك عطاء لا تستحقّه. العطاء الذي تقف حياله أقوى هو النوع الثالث الذي تحسب أنك كنت تستحقّ أفضل منه.
■ ■ ■
تحضر على شاشة المخيّلة صورة يرفضها العقل لابتذالها، وإذا بالحواس جميعاً تستمتع بها. في هذه الخسفة بين الوعي والحواس ـــــ حيث شيء من الحواس في الوعي وشيء من الوعي في الحواس ـــــ يتأرجح تهتُّكٌ معافىً معلّقاً بين الارتماء تحت الشلّال والبقاء بأمانٍ وراء النافذة.
■ ■ ■
أغلب الكلمات التي أقنَعَتْني كانت مهموسة.