ضحى شمستتوقف السيدة الخمسينية التي كانت تسلك بسيارتها المسلك اليمين من الطريق، خلف «الفان» المتوقف بدوره على المنعطف، عند تقاطع الحمرا مستشفى الجامعة الأميركية. ترسل زمورها متأففة وقد أرسلت الشمس أشعتها على «شينيون» شعرها المنتفخ والخارج للتو من عند الكوافير، فبان بياض جلدة رأسها من بين الشعيرات.
يصادف مرورك بجانبها وهي تخاطب الشرطي الشاب الواقف على الرصيف متفرّجاً، بحيادية تامة، على الركاب الذين كانوا يطلعون إلى جوف الفان، من دون أن يبادر إلى ردعه عن توقفه الذي شل حركة السير خلفه. هكذا، بدا السير عالقاً كغصة في الحلق، وقد انطلقت أبواق السيارات في جوقة احتجاج، وعلى رأسهم سيارة السيدة التي وجدت نفسها مزروكة خلفه لا تستطيع التقدم: الفان اللامبالي من أمامها، ورتل السيارات المتزايد الطول من ورائها فإلى أين المفر؟
تووووت. تحتج السيدة ذات الأناقة اللبنانية التي تشي بيسر مادي ما، بكبسة زمور وبلهجة تخفف من وطئها لمخارج أحرف الضاد والطاء فتحولها إلى دال وتاء، وفوق ذلك، لثغة فرنكوفونية لحرف الراء «معقول يعني تاغكو واقف ومسكغ لنا التغيق؟ ما هيدا اليمين؟ مش لازم يدَّل مفتوح يا وَتَن؟». لم يكن باستطاعة السيدة بالطبع أن تعود إلى الخلف، فسيارتها حُشِرت بين الفان والسير. تعيد كلامها على الشرطي الشاب الذي تجاهل سماعها والقيام بواجباته لسبب ما. أيكون ذلك بسبب معرفة بسائق الفان الذي كان يدندل ذراعه من النافذة يسأل المارة ببرمة كفه: لوين؟ أم هي لهجتها التي أثارت لديه مواجع طبقية متفرقة؟ مهما يكن، يجيبها فجأة وبلهجة بقاعية فيها غضب مكتوم: «شو هوي ما بدو يعيش كمان؟ روحي هيك من وراه لفّي، والله معك يللا!» يقولها مطوّحاً بذراعه وكأنه يوضح لها كيف «تلف من خلف الفان» المخالف الذي لا يزال مكملاً «تعباية ركاب» قادمين من جهة مستشفى الجامعة. أما الزمامير، فقد كانت جوقتها تتحف نزلاء المستشفى بكل الهدوء المناسب للمرضى.

تقدير متبادل

تختار السرفيس المتهالك الذي يتوقف أمامك وهو يكاد لا ينجح في الحفاظ على الموتور شغالاً اللحظات الضرورية لتصعد إليه. تختاره وابتسامة متواطئة مع وضعه، ترتسم على شفتيك: المستشفى العسكري؟ يقول لك أن تطلع. حال داخل السرفيس «أضرب» من خارجه. المقاعد ممزقة وقد نبق إسفنجها من تحت راصورات بالكاد موّهها جلد رقيق. تتعزى عن مخاوفك من أوجاع الظهر التي قد تسببها لك تلك الجلسة غير المريحة بأن المشوار قصير. لا يكفّ السائق الشاب المبتسم ابتسامة من يرى في وضعه مشهداً كوميدياً، عن إعادة تشغيل الموتور كلما توقف، أي كل عشرة أمتار. ينظر إليك في المرآة ويقول وكأنه يحاول تحويل انتباهك عما هو فيه: «إلك حدا بالمستشفى العسكري؟»، ثم لا ينتظر الجواب ليخبرك أنه استأجر «هالكركوبة» من صاحبها «حتى طلعلي قرشين»، وأنه كاد يعلق «من يومين على حاجز للدرك. بس قلت يا ولد ما تكون كسلان، ركبت أنارييه ــــ اتجاه التراجع للخلف ــــ وهربت». تسأله بتهذيب من يعلم أن السائق لا بد راوٍ لروايته، مماذا هرب؟ فإذ به يقول ضاحكاً: «ما معي رخصة عمومي»!
نعم؟ تبلع بريقك، والسيارة ينطفئ موتورها مرة أخرى. تتنبه إلى أنك فتاة، وأن الدنيا ليل، وأنك وحدك داخل السيارة ذات النمرة الحمراء التي يسوقها سائق غير عمومي. تنظر بقلق إلى الأرصفة والشوارع الخالية التي تمر السيارة بها وأنت تصلي كي يوفق براكب آخر. تسأل نفسك إن كانت النمرة فعلاً عمومية أم أنها مطلية فقط بالأحمر كما يروي سائقون عارفون بحال فلتان البلد. يكمل الشاب الذي بدا بعيداً عما يدور في رأسي من مخاوف، حديثه عن مغامرته مع الدرك. يقول إن هؤلاء حين هرب لحقوا به. تستغرب أن يكونوا قد فعلوا، فأنت ترى بعينك كل يوم على الطرق كيف يشير الشرطي إلى السائق المخالف أن يتوقف، فلا يبالي به. لا، بل إن الدراجات النارية تمرّ من تحت أنف الشرطي: عكس السير ومن دون خوذة، فلا يستثير ذلك منه نخوة تطبيق نظام. وبكل الأحوال فإن شرطة السير في أغلب الأوقات لا ترافقها أية آليات لمطاردة المخالفين. المهم، يكمل روايته: «فتت من شارع، فاتوا ورايي، لفّيت كوع لفّوا ورايي، قلت يلعن أبو هالعلقة ــــ سوري مدام ــــ الهيئة ما رح يتركوني. بس ما فيي وقّف. قلت رح ازمط شو ما كان يكون: دعست بنزين ولفّيت من هون من محل ما فتنا خلف المتحف.. الشارع كلو عتم، ما في ضو بلدية، لفّوا ورايي»، يقول وقد وصلنا إلى حاجز الجيش أمام المستشفى العسكري حيث كانت عارضة حديدية ملونة بالأبيض والأحمر تقطع الطريق أمام السيارات. تظن أنك زمطت من بقية الرواية: «هون اعمل معروف». لكنه يوقف السيارة ويكمل ملتفتاً إلي في الخلف: «لما وصلت للحاجز هون استحقيتها: قلت خلص. حشروني». ثم يردف «قللي وراقك، قلتلو هاي اياها. قال وين رخصة العمومي؟ قلتلو والله ما معي. قللي ــــ وحياة اولادي يا مدام ــــ هلق نحنا لازم نحجزك بس بما انك قبضاي بالسواقة، وما قدرنا نوقفك لولا ما تكون الطريق مقطوعة، يللا خلص روح، الله معك»!