يبدو أن إيداع الأهل من كبار السنّ في دار للمسنين بدأ يُقبَل اجتماعياً في الجنوب. هذا ما يكشفه نجاح تجربة دار الأمان في العباسية، التي باتت تحتضن بعد عامين على إنشائها 28 نزيلاً مع وجود 10 آخرين على لائحة الانتظار، ما يستدعي توسعتها وتأسيس مركز آخر في جويا. زيارة للدار التي تحتضن بين أرجائها أيقونة حرب تموز الحاجة كاملة سمحات
العباسية ــ آمال خليل
هل تذكرون كاملة سمحات؟ تلك السيدة التي وقفت تحت سماء الضاحية الجنوبية إبّان عدوان تموز لتعلن بأعلى صوتها: “بيتي في الضاحية راح، وبيتي بالضيعة راح وكله فداء المقاومة والمقاومين”؟، هذه السيدة التي تحوّلت أيقونة الصامدين خلال حرب تموز، تقيم منذ أشهر في دار الأمان للمسنين، في مركز السيدة فاطمة الزهراء الصحي الاجتماعي الخيري التابع لجمعية المبرات الخيرية في العباسية (قضاء صور). لم يبقَ لها بيت، ولا قوة بدنية تعينها على السير بين الأنقاض، أو المخاطرة تحت القصف مجدداً. فقد أصابتها قبل أشهر جلطة دماغية سبّبت لها شللاً نصفياً في جانبها الأيمن، وعجزاً عن الكلام. ابنة أُختها التي كانت تهتم بها وبوالدتها، لم تعد تستطيع القيام بالمهمّتين بعدما أصيبت أمّها بالعارض الصحي ذاته، فاضطرت آسفة إلى إيداع خالتها في دار المسنين الوحيدة في الجنوب.
ولأنها أم كامل بات البعض يقرن الدار بها حتى أصبح اسمها: “دار أم كامل”، وهي التي لم تصبح أمّاً يوماً، وإن وُصفت بـ“أمّ المقاومين. هي نجمة هنا، لكنها نجمة صامتة بلا صرخات حماسية أو حركة غاضبة من يديها أو خطوات ثابتة من قدميها. فجسدها منهك لا يبارح الفراش إلا بمساعدة الممرضات، لقضاء الحاجة أو الخضوع لجلسات العلاج الفيزيائي القاسية. على الرغم من ذلك، هي محطّ اهتمام الجميع، أطباء وممرضات وموظفين. الكلّ يسأل عنها ويأتي لتحيتها ويتمنّى لو تتمكن من مبادلته الكلام. رد فعلها الوحيد، أنّات طويلة تطلقها إمّاً وجعاً وحزناً أو ربما رفضاً لتذكيرها بما كانت عليه وما آلت إليه. لكنها لا تزال تحظى بأشياء يحسدها عليها الآخرون، منها اهتمام السيد حسن نصر الله بها كما يقولون في الدار.
نزلاء الدار شهود عيان على ما سببته إسرائيل في حياة الجنوبيين
ليست أم كامل وحدها من تحوّلت غرفتها في الدار إلى شاهد عيان على ما سبّبته إسرائيل في حياة الجنوبيّين. طريحة الفراش المجاور هي نبيلة، الحاصلة على الجنسية الأميركية وعلى إجازة في التمريض من الولايات المتحدة. خط سيرها من بلدتها قانا إلى دار المسنين بدأ من بتر قدميها في مجزرة قانا الأولى خلال عدوان نيسان، عناقيد الغضب في عام 1996، ثم هجرة ابنها الوحيد إلى الخارج، وبقائها وحيدة أسيرة غرفة مهجورة بجوار مقبرة بلدة باريش. يد الخير مدّتها إليها مغتربة من المنطقة لتنقذها من غياهب الإهمال، فحملتها إلى الدار قبل أشهر، حيث تخضع لعلاج فيزيائي ودعم نفسي بسبب الصدمة العصبية، والاكتئاب الذي تعانيه.
تختصر دار المسنين دورة الحياة الكاملة من المهد إلى اللحد. هنا يتساوى من لم يتزوج وينجب أطفالاً، مع من أنجب. الدار بيت الاثنين، بعدما فقدا ملجأهما خارجه. وفيها نجد الابن العاقّ، الذي تخلى عن ذويه في كبرهم، والآباء الذين يقضون “عقوبة” أفعال ارتكبوها بحق أبنائهم حتى نبذوهم. دار الأمان تكشف أيضاً حالات عدم الاستقرار التي سبّبتها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، التي دفعت بالأبناء إلى النزوح إلى خارج الجنوب أو الهجرة خارج البلاد. هذا الأمر كرّس ظاهرة “ناطر البيت” التي تطلق على الأبوين اللذين يقضيان شيخوختهما وحيدين في منزل العائلة الفارغ في الضيعة. إذ إن معظم المسنين في الدار، الذين أودعوا فيه أو لجأوا إليه بإرادتهم، كانوا يعيشون وحدهم بلا معين باستثناء عدد قليل منهم وفّر لهم أبناؤهم الميسورون مسعفة منزل أو ممرضة.
تشرح المسؤولة الاجتماعية في الدار غزوة حيدر، أسباب لجوء الناس “المشروع والمحقّ أحيانا” إلى إيداع ذويهم أو أقاربهم في دار للمسنين. فتتحدث عن غياب نظام ضمان الشيخوخة، ودورة الحياة السريعة، وتفكّك الأواصر والروابط الاجتماعية، وكثافة هجرة الأبناء “كلها عوامل تعزّز نجاح تجربة دور المسنين في الريف كما في المدينة” تقول حيدر. وإذا كانت فكرة الدار مرادفة لدى البعض للإهمال و“العزارة”، فإن الأمر في دار الأمان “مختلف بدليل وجود أم كامل وأمثالها فيه”. وحيدر تجد تبريرات عدة للأبناء الذين يقدمون على الخطوة، وتعطي مثالاً على ذلك، رجل من بلدة عيناتا، كان مسؤولاً عن والديه العاجزين وأخته المصابة بتخلّف عقلي وشلل تام. وبعدما تدهورت أوضاعهم الصحية وتفاقمت حاجاتهم التي لا يمكنه تحمّلها وحده، اضطر إلى إيداع والديه في الدار، حيث “يتلقّون عناية صحية ونفسية وغذائية ممتازة على أيدي أطباء وممرضات متخصصين”. الرجل بحسب إحدى الممرضات لا ينقطع عن زيارة والديه والاطمئنان إليهما. لكن حيدر لا تنفي أن البعض رأى أن الدار “نقطة فاصلة بينه وبين ذويه، فسلّم المسؤولية لإدارة الدار، وتنصّل من مسؤولياتهم المعنوية والإنسانية وأحياناً المادية”.
يقرّ مدير الدار نبيل نور الدين بعدم تجاوب المجتمع مع التجربة “المغامرة” في بادئ الأمر. فعند افتتاح الدار قبل سنتين كانت تضم نزيلتين فقط “بسبب عدم تقبّل المجتمع للأمر، مع أن قرار إيداع الأهل في دار رعاية مختص موجود لدى البعض، لكنهم لا يقدمون على الخطوة خوفاً من كلام الناس”. إلّا أنّ العدد آخذ بالازدياد منذ عام واحد فقط، وقد فاق الـ28 نزيلاً ونزيلة من البقاع وبيروت والجنوب وجبل لبنان، فيما هناك 10 حالات على لائحة الانتظار، الأمر الذي يدفع بالجمعية إلى بدء توسيع الدار التي تضم حالياً 40 سريراً في غرف مجهّزة بوسائل الترفيه والخدمات الصحية والعلاج التأهيلي النفسي والاجتماعي والمكتبة العامة والنشاطات الثقافية. وفي الإطار، تستعدّ الجمعية لافتتاح دار مماثلة أُخرى قريباً في جويّا.