نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

الرجل عاد إلى المنطقة، وقيل له فوراً إنه لا نتائج متوقّعة «هذه المرة». وسيعود الشهر المقبل، وفي الأشهر التالية. وهو بذلك ينضمّ إلى سابقيه في ممارسة ما أُطلقت عليه تسمية «الجولات المكوكية». وفيما هو يتسلّى، أو يمارس بجدية مهام وظيفته، أو يؤمن فعلاً بما يقوم (لا أدري أيّها أدقّ، وقد تكون هناك احتمالات أخرى)، تطغى ديماغوجيا من طراز خاص على المسألة الفلسطينية. إليكم بعضها:
1ـــــ يقال بقوة حتى غدا اقتناعاً شائعاً، إن الانقسام الداخلي الفلسطيني هو أصل البلاء. لا يجادل أحد في سوء الانقسام الفلسطيني. فهو تعدّى الخلاف السياسي، ذاك الذي يثير الفرح لأنه مثرٍ وخلاق، ودخل في باب التدمير الذاتي، كاشفاً المأزق المتعدد الوجوه والمستويات الذي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية. لكن الانقسام الفلسطيني هذا، رغم بشاعة المظاهر التي يتخذها، ورغم الدلائل الخطيرة التي يعبّر عنها، ليس هو من يعطّل المسيرة السلمية، ولا فرص الحل والتسوية. بل أكثر من ذلك: لو كان ثمة حل في الأفق، وفرصة لتسوية ما، لأمكن تجاوز الانقسام الداخلي. هل كانت كل الحركة الوطنية الفلسطينية موافقة على أوسلو؟ بالتأكيد لا. لكن تلك الاتفاقية تمكنت من فرض نفسها لأنها بدت وقتها حاملة لعناصر تسوية تاريخية، وإن مجحفة بحق الفلسطينيين ـــــ ولا توجد تسوية، مهما كانت، ليست مجحفة بحقهم، لأن الظلم الأصلي الذي نالهم مطلق. الإمعان في تعيين الانقسام الفلسطيني بوصفه مصدراً للاستعصاء السياسي الحالي يمثّل قلباً للإدراك المطلوب (لا يهمّ إن كان واعياً ومتعمداً أو لا)، وتشويشاً له. فهو يموّه طبيعة الموقف الإسرائيلي الذي لا يريد أي تسوية. وليس في هذا التأكيد أي مبالغة أو تطرف. الساسة الإسرائيليون يقولون ذلك بوضوح، لكن لا أحد يريد أن يسمع، لأن تقبل هذا المعطى محرج للغاية سياسياً، وتترتب عليه نتائج.
بعض التاريخ: بعد مماطلات وتسويف وإرجاءات وتعديلات لا حصر لها على وثائق أوسلو، وبعد اغتيال رابين إثر حملة عليه صوّرته عميلاً لعرفات، تسلّم شارون السلطة قائلاً: «جئتُ أنجز 1948». هل توقف أحد أمام هذا الكلام لأفضل استراتيجي عرفته إسرائيل منذ آبائها المؤسسين؟ لست بصدد تناول ما يجري على الأرض، حيث انفلت الاستيطان من عقاله مع أوسلو، وتعاظمت مذّاك، وبلا انقطاع، وتائره كما أدواته. ومنذ أيام، قال ليبرمان، الذي يعامَل كمعتوه، لكنه رغم ذلك وزير خارجية إسرائيل، إنه لا حاجة إلى حل، وإن الكثير من الصراعات بقيت بلا حل، وإنه على إسرائيل تعلم العيش بدون حل. ثم قال: علينا إدارة الصراع، لذا يجب الحفاظ على المفاوضات كمسيرة حية. هل توقف أحد أمام هذا الكلام البالغ الدقة والأهمية، ليس لأنه صريح، بل لأنه مطابق للواقع. فما يجري فعلياً هو إدارة الصراع بواسطة مفاوضات لا تنتهي، منها جولات السيد ميتشل المكوكية.
2ـــــ ويقال بقوة إن السيد أوباما يمنح أولوية كاملة لهذا «الملف». فيطمئن العرب الكسالى، لأن منقذاً سيتدبر لهم مخرجاً من وضع لا يطاق. لكن السيد أوباما يرسل السيد ميتشل إلى المنطقة، ويشجع من جهة ثانية نواباً من الكونغرس على توجيه رسالة إلى ملك السعودية يحثّونه فيها على القيام بـ«لفتة تجاه إسرائيل»، لبناء الثقة! ما اللفتة المطلوبة يا ترى؟ إعلان التطبيع مثلاً؟ وثقة من بمن؟ وفي الأثناء أيضاً وأيضاً، تطرح في التداول شائعات، تقوم على تصريحات من هنا وتسريبات من هناك، بأن هناك خطة لإعلان النية بالموافقة على (لاحظ كمية التمهيدات) دولة فلسطينية خلال سنتين، يعمل عليها معاً الأميركيّون والأوروبيون والعرب والسلطة الفلسطينية (الله أكبر!)، تقرّ بحدود 1967، وبإمكان إجراء تعديلات عليها بواسطة مقايضة أراض. وكل هذا في جملة واحدة!
من المرجح أن ينتهي الأمر برمّته على الشكل الآتي: وسط تصفيق عارم، وتأثر الكثيرين، تقبَل فلسطين عضواً كاملاً في الأمم المتحدة بعد سنتين. ثم؟... ثم لا شيء! ألا تسمعون بميكرونيزيا التي تصوّت دائماً (ومعها دولة أخرى نسيت اسمها) مع الولايات المتحدة. لن تكون فلسطين كـ«هذه»، فهي في قلب العالم، لكن من يتشكك بوجود «هذه»، وبعضويتها في الأمم المتحدة.
وحتى تصحّ الصفقة، تضاعف السلطة الفلسطينية منذ الآن من تدابير سطوتها على الناس، من خنق كل نأمة وهمسة، من توقيفات اعتباطية وعمليات دهم تحت جنح الظلام وتصفيات في السجون، ومن إشاعة الفساد، علاقات وثقافة، بحيث يرافق الإحساس بالهزيمة السياسية وبانسداد الأفق، جو بوليسي يسود تدريجاً، يعود الكثير من الفضل في إمكان تحقيقه للجنرال دايتون، العابر للرؤساء الأميركيين، الذي يدرب في الأردن فوجاً تلو الآخر من وحدات الأمن الفلسطيني، ثم يعهد بهم للسيد دحلان.
التشبّث بالبحث عن حل للمسألة الفلسطينية اليوم، والاستمرار بتناول العملية السلمية كأنها ما زالت قائمة، درع يتستّر بها من لو تخلّى عن هذا الخطاب لاضطر إلى أحد أمرين: إما التسليم التام والصريح لإسرائيل، وإما القبول بالحاجة لمقاربة المسألة الفلسطينية بوصفها صراعاً، مفتوح الآفاق على كل أدوات الصراع. والموقفان علقم. وهكذا يتواطأ الجميع على المسرحية السمجة الدائرة، وأحد أبطالها هو المكوك الجديد، مستر ميتشل، الحاضر بيننا هذه اللأيام.