أحمد الزعتري
التقيناه في مقهى «الفاروقي» في الشميساني الذي كان حكراً على نخبة المجتمع، قبل أن يتحوّل إلى مكان مهجور. كانت أولى ليالي رمضان، والفوضى تبلغ ذروتها: مشاجرات عشائرية في منطقتي عجلون ومادبا، اعتداء على رجال أمن في الجفر لمنعهم من اعتقال مطلوب بأكثر من 26 جريمة. 23 جريمة شرف هذا العام، اعتصام لعمال موانئ العقبة يُفضّ بهراوات الدرك، ووزير الداخلية يتهم «جهات خارجية تسعى إلى زعزعة استقرار الأردن» بالوقوف وراء الاعتصام. يحدث كل ذلك بينما تستجمّ الوزارة في الخارج. في اليوم التالي، كتب محمد عمر في مدوّنته الأشهر في الأردن «البلد تحترق ودولة الرئيس وبعض وزرائه يستمتعون بالريف الأوروبي (...) هذه دولة لناس وناس، دولة رخوة مايعة مايصة».
تحدّث ثلاث ساعات. تحدّث بحزن، بيأس من شارك في الانتصارات والخيبات والهزائم، طوال قرن، وصولاً إلى الانحطاط العربي الذي يلفّنا اليوم. يمثّل محمد نموذجاً للحزبيّ البروليتاري الذي ولد لاجئاً، وتظاهر ضدّ زيارة السادات إلى الكنيست والتحق بصفوف الجبهة الشعبية، وحارب في لبنان. ثم عاد إلى عمّان ليجد كل ما حارب من أجله نهبته السلطة الوطنيّة «تحت راية الديموقراطيّة».
محمد عمر فهم أن زمن الأبطال انتهى، لذا بدأ بكتابة يومياته في مدوّنة www.mohomar.com، عن تجربته الحزبيّة، وعمان التي يحب وذكريات طفولته في قاع المدينة. نجد أيضاً مراجعة يومية للصحف الأردنيّة وأحياناً تحليلات اقتصاديّة. كل ذلك بحريّة أين منها صحافة هذا الزمن المدجّن؟
من يستمع إلى مسيرة محمّد عمر، سيجد نفسه أمام شريط سينمائي يتقاطع فيه العام والخاص، الأحداث الكبرى بالحكايات الحميمة. في 1960 ولد الابن السابع بين 12 ابناً، في «مخيّم موقت للاجئين الفلسطينيين» في عمّان، من أسرة فقيرة. كبر الطفل في الشوارع وأسواق الخضار: راح يبيع العلكة، يلملم البلاستيك والحديد من مكبات النفايات، والألمنيوم من بقايا أنابيب مستشفى «البشير».
يذكر عمر الواقع السياسي آنذاك، «كنا نسمع عن الفدائيين ونشعر بالفخر... رأيتهم للمرّة الأولى إثر معركة الكرامة (1968)، حين جاؤوا بالدبابات الإسرائيلية إلى وسط البلد». على أثر ذلك التحق بمعسكر «أشبال فتح»، وتدرب أشهر على حمل السلاح. تتوالى الأحداث كما هو متوقّع لمن اختار هذه الطريق الشائكة، بعدما وقع في فتنة السياسة. كان لا بد للشاب المفتون من أن يبحث عن مخرج، فهاجر إلى بيروت سنة 1977، وانتسب إلى «حركة فتح» لتبدأ فترة العمل المسلّح. خدم في النبطية، الدوير، أنصار... كان مجرد شاب في مقتبل العمر يحمل بندقية، ويجلس تحت شجرة من الرابعة صباحاً حتى الغروب. كان ورفاقه يتداولون قصيدة «أحنّ إلى خبز أمي» كالخبز الطازج. سيحنّ الشاب إلى منزله، ويفكر كثيراً في دراسته ومستقبله، فيعود إلى الأردن ويلتحق بالجامعة الأردنية... ويشارك في التظاهرات ضد اتفاقية «كامب ديفيد». كانت النتيجة أن حُجبت عنه المنحة التعليمية بقرار من الاستخبارات. هكذا رجع إلى بيروت ليستأنف مشواره في صفوف «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» هذه المرّة. صار اسمه الحركي خالد سمير، وتقرّب من جورج حبش. ومعه خرج لاحقاً من بيروت، على متن سفينة متوجهة إلى طرطوس. ثم إلى كوبا لدراسة الاقتصاد السياسي، قبل أن يرجع إلى كنف حبش في سوريا، ويؤسس مركز دراسات متخصصاً في رصد الصحف والدراسات الاستراتيجيّة التي تهمّ «الحكيم». تلك الفترة كانت محوريّة في حياته: «كان نقدي جذرياً للجبهة الشعبية... كنتُ مع حل القطاع العسكري في لبنان، وضد استشراء الفساد والبيروقراطيّة فيه وفي التنظيمات الفلسطينيّة الأخرى».
الأردن في 1991. عودة الحياة الديموقراطيّة، وعودٌ بالحريّة والانفتاح والشفافية. كانت تلك الشعارات مغرية لمحمد عمر فسلك طريق العودة. عاد إلى صفوف الحزب الشيوعي الأردني الذي انتسب إليه في ١٩٧٥، وعمل على إصدار مجلة «نداء الوطن». وبعدما بدأ التيار المحافظ في الحزب بالتضييق على المجلة، استقال منها، ليصبح رئيس تحرير موقع البوابة الإلكترونيّ الذي يشغله حتّى اليوم.
ثلاث سنوات مرّت على إطلاق مدوّنته التي يتراوح عدد زوارها حاليّاً بين ألفين وثلاثة آلاف يوميّاً. يجلس محمد ومعه الـ«لاب توب»، يكتب ما يعبر بباله، مستعيناً بذاكرته متكئاً على نزقه. تعبر المواضيع على اختلافها، ومنها ما يمسّه شخصيّاً: التحرّشات التي تعرّض لها طفلاً من ربّ عمله، علاقة عاشها مع سحاقيّة... من دون أن ننسى ما يدوّنه عن فساد الصحافيين تحت زاوية «اهبش»، وعشرات النصوص عن محبوبته عمّان.
لكن كيف يمكن أن تحبّ مدينة وكل شيء فيها يقنعك بالعكس؟ «أنا الآن متصالح مع المكان، وأكثر جذرية في نقدي للنظام. النظام الأردني معتدل وعقلاني، لكننا نرى النخب تتماهى معه... قُضي تماماً على المعارضة وما كان يمكن أن يمثّل نخبة مثقفة، بحجّة الاكتشاف المتأخر للهوية الوطنيّة». أما عمّان، فهي «مدينة السهل الممتنع، توفّر لك هدوءاً بعيداً عن ضجة الناس، عشت في عمّان أغرب الحالات التي لا يمكن أن أعيشها في بيروت أو هافانا... لم أرَ فلسطين إلا مرات قليلة من بعيد عبر دوريات استطلاعيّة، فلسطين كانت فكرة وحلماً. أما عمّان فهي الحقيقة المجسّدة والتفاصيل التي عشتها. المؤلم أنك لن تجد فيها من تؤسس معه لفكرة، حتى لو كانت مؤسسة لحماية الرصيف. الأردن بلد ضعيف ثقافيّاً من الأساس، والنظام تمكّن من شراء النخبة المثقّفة».
ماذا عن النشر؟ لا يهتمّ محمد عمر في نشر ما يكتبه عن عمّان مثلاً، رغم أن ذلك يندرج في سياق التوثيق للمدينة وقاعها. لكنه يفكّر في كتابة مشروع تاريخي ــــ توثيقي ــــ نقدي عن تجربته في المقاومة الفلسطينيّة: «عشت المقاومة من انطلاقها إلى موتها. كنت شاهداً على معاركها وفسادها، عرفت المتآمرين داخلها والمتآمرين عليها... ذلك سيكون عملي الوحيد. أما نشره، فمسألة أخرى غير مضمونة تماماً».


5 تواريخ

1960
الولادة في مخيم للاجئين في عمّان (الأردن)

1975
انتسب إلى الحزب الشيوعي الأردني

1980
جاء إلى لبنان حيث التحق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصار اسمه الحركي خالد سمير

1982
سافر إلى كوبا لدراسة الاقتصاد السياسي

2009
يواصل مدوّنة «محمد عمر» التي أسّسها قبل عامين