دنيال بلمار المدعي العام في المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري يتحضر لإصدار مضبطة اتهام عبر تعديل استراتيجية عمله. رغم الشكوك المتزايدة في مصداقيته، يرى بلمار كلامه عن «تأكيد أوباما دعمه لعمل المحكمة الدولية» مطمئّناً
لاهاي ــ عمر نشابة
تنذر تغييرات تشهدها المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري باقتراب موعد الامتحان الأصعب الذي سيخضع له المدعي العام الدولي: الاتهام. عدّل بلمار أخيراً استراتيجيته، التعديل كشف تناقضات تثير شكوكاً في مصداقيته، وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد لمّح مطلع أيار الماضي إلى وجود ثلاث شخصيات لبلمار: «الأول رئيس لجنة التحقيق وهو الشريك في الظلم الذي لحق بالضباط، والثاني بلمار الذي لم يمانع إطلاق سراح الضباط، أما الثالث فلا نعرف عنه أي شيء، هل سيكون بلمار الأول أم بلمار الثاني؟». وتساءل نصر الله يومها كيف سيتصرف المحققون الدوليون في المرحلة المقبلة وأي مسارات سيسلكون «أعلمياً؟ أو سترتكب الأخطاء عينها؟ هل ستوجه اتهامات لأشخاص جدد استناداً لشهادات كاذبة أو سيُدقّق بالدليل والحجة علمياً؟». وأضاف «لا حكم على المرحلة المقبلة مسبقاً، ولكن يجب أن يثبت المسؤولون الدوليون أنهم نزيهون وهم قادرون على إثبات ذلك أو عكسه»، لافتاً إلى أن من ضلل التحقيق 4 سنوات يمكنه أن يضلله 100 سنة.
القاضي الكندي حافظ على «البوكر فايس» منذ تعيينه رئيساً للجنة التحقيق الدولية وانتدابه مدعياً عاماً دولياً في المحكمة الخاصة بلبنان. غير أنه بادر أخيراً إلى تعديل بعض من استراتيجياته لجهة ابتكار أسلوب للتعامل مع قضية احتمال اتهام أشخاص منتمين إلى حزب الله في جريمة اغتيال الحريري، ولجهة تعاطيه ومكتبه مع الإعلام، وتجاهله قضية شهود الزور عبر التخفيف من القيمة الجنائية للتدخلات السابقة في التحقيق.
ردّ بلمار أخيراً على الاتهامات المتعلقة بتسييس عمل المحكمة. دعا عبر وسيلة إعلامية سعودية «الذين يطلقون هذه الاتهامات من دون أدلة أن يعرضوا عليه أدلتهم ليرد عليها». تستعيض «الأخبار» عن الأدلّة بشأن تسييس عمل المحكمة بتقديم شرح لبعض الثغر التي تسمح بالتدخلات السياسية في العمل القضائي، والتي يتحمّل بلمار جزءاً من مسؤولية فتحها وتوسيعها عبر تغيير استراتيجيته. لكن المسؤولية الأكبر لوجود تلك الثغر، تقع على عاتق القضاة اللبنانيين والدوليين الذين أقرّوا قواعد إجراءات وأدلة للمحكمة تسمح إلى حدّ بعيد بتجاوز الشفافية المطلوبة لتحقيق العدالة، وخصوصاً لجهة احتمال إخفاء مصادر بعض المعلومات بحجّة «الحساسية الأمنية».
لا تتوافر أجوبة مقنعة لدى المدعي العام عن بعض الأمور التي لا تخضع لسرية التحقيق
يناقض بلمار والفريق العامل في مكتبه أنفسهم في تعاطيهم مع موضوع التسمية والإشارة. يقول «أنا لا أعلّق على التكهنات» ويرفض التصريح بأن ما ورد في مجلة «دير شبيغل» الألمانية عن ضلوع حزب الله في جريمة اغتيال الحريري ليس صحيحاً، أما بشأن القادة الأمنيين اللبنانيين الأربعة اللواءين جميل السيد وعلي الحاج والعميدين ريمون عازار ومصطفى حمدان الذين احتجزهم القضاء نحو أربع سنوات تعسفاً بناءً على توصية لجنة التحقيق الدولية، فقد صرّح بلمار «أطلق سراحهم لأننا لم نملك أدلة كافية لإبقائهم في السجن، وهم كالآخرين سندق أبوابهم إذا ما أصبحت لدينا أدلة ضدهم». يُستغرب أن تكون المسؤولة الإعلامية في مكتب بلمار راضية عاشوري قد استبعدت استخدام وسائل إعلام سعودية ذلك التصريح للتلميح بعدم ثبات براءة الضباط، بينما تقتضي معايير العدالة اعتبار كلّ شخص بريئاً حتى تثبت إدانته أمام المحكمة. عاشوري تتمتع بمعرفة جيدة بانحياز وسائل الإعلام إلى جهات سياسية، وكانت قد شغلت منصب مسؤولة إعلامية في مكتب رئيس الدائرة القانونية في الأمانة العامة للأمم المتحدة، ورفضت حينها تصحيح خبر عار من الصحّة ورد في الوسيلة الإعلامية السعودية نفسها تمثّل بنقل غير دقيق لكلام نسب لنيكولا ميشال.
على أي حال، يبدو أن بلمار حصر اتصاله بوسيلة الإعلام السعودية دون غيرها، بينما كان قد عبر عن اهتمامه بثقة اللبنانيين بالمسار القضائي الدولي وانفتاحه على جميع وسائل الإعلام. تتمحور أسباب تغيير الاستراتيجية حول عدم توافر أجوبة مقنعة لدى المدعي العام عن بعض الأمور التي لا تخضع لسرية التحقيق مثل تبرير تعيين ضابط أسترالي مقرّب من قوات الاحتلال الأميركي للعراق وأجهزته الاستخبارية رئيساً لفريق التحقيق، وتعيين «خبير» مقرّب من قوى 14 آذار وملتزم سياساتها مستشار قانوني في مكتبه.
ومن الأسباب أيضاً عدم رغبة بلمار بتناول موضوع شهود الزور والتدخلات السياسية في التحقيق الدولي منذ انطلاقه في صيف 2005.
تقتضي المنهجية العلمية المعتمدة عادة في عملية التحقيق الجنائي الاشتباه في كلّ من يدلي بمعلومات غير صحيحة تتعلّق بالجريمة والضالعين فيها المحتملين. لكن، يبدو أن بلمار لم يطلب استدعاء محمد زهير الصديق وهسام هسام وغيرهما من الذين قدّموا معلومات إلى لجنة التحقيق الدولية تبين أن بعضها غير صحيح.
الصديق يخضع حالياً للمحاكمة في الإمارات العربية المتحدة التي دخل إليها بجواز سفر تشيكي مزوّر منحته إياه جهات فرنسية على حدّ قوله. ولم يطلب بلمار من الأنتربول استدعاءه.
يقول المدعي العام الدولي «وحدها الأدلة هي التي توجّه التحقيق» كما يردّد بأنه سينظر في كلّ الاحتمالات. لكن تلك الأقوال تناقض أفعاله لجهة إهمال مسار التحقيق الخاص في قضايا محاولات التلاعب في عملية التحقيق. أما في ما يخصّ تسمية المتهمين في الضلوع في جريمة اغتيال الحريري فسيعتمد بلمار، على ما يبدو، الفصل بين هؤلاء الأشخاص وانتماءاتهم السياسية والمذهبية والعقائدية وسيحاول التظاهر بأن لا علاقة لهؤلاء بقيادة حزب الله وأنهم تصرّفوا من دون التنسيق معها وأنهم على الأرجح «نسقوا مع جهات خارجية من دون علم السيد حسن نصر الله» بحسب ما قاله أحد المسؤولين الأمنيين اللبنانيين المعنيين بتنسيق التحقيقات مع مكتب المدعي العام الدولي.
على أي حال «على من يطلقون شائعات التسييس أن يتذكروا أن المحكمة تخص أناساً قتلوا، وهي وجدت لمنع مزيد من القتل والقيام بأعمال إجرامية من دون عقاب» يقول بلمار. نسأل: هل قرأ القاضي الكندي ما ورد على لسان وليد جنبلاط من تشبيه لاتهام حزب الله باغتيال الحريري ببوسطة عين الرمانة؟ وبشأن «منع مزيد من القتل»، هل سيمنع المحكمة الدولية إسرائيل من تكرار اقتراف مذابح 2006؟


ثلاثة ضوابط تسبق الاتهام

يرفض بلمار تحديد موعد إطلاق مضبطة الاتهام مسبقاً، إذ إن ذلك لا يجوز مهنياً لاعتبارات ثلاثة: إدارية وأمنية واستراتيجية. يدرك بلمار أن نظام المحكمة يفرض تولي قاضي الإجراءات التمهيدية (دنيال فرانسين) النظر في قرار الاتهام «فإذا ما اقتنع بأن المدعي العام قد قرر الملاحقة في ضوء القرائن، فإنه يعمد إلى تثبيت قرار الاتهام، أما إذا لم يقتنع بذلك فإنه يرد القرار» (المادة 18). لذا لا تعود صلاحية تحديد موعد الإعلان عن مضبطة الاتهام لبلمار بل تقتصر وظيفته على تقديم الملفّ إلى القاضي البلجيكي الذي سيتعمّق في دراسة مضمونه لجهة التأكد من الوزن القانوني للقرائن والأدلة الجنائية.
وما زال الجناة الذين يصفهم بلمار بـ«الجماعة المحترفة» أحراراً طلقاء. لذلك إن إعلان موعد صدور مضبطة الاتهام قد يعرّض حياته وحياة آخرين لخطر الاستهداف الأمني قبل الموعد المعلن. أما في ما يخص الاستراتيجية فتقتضي التفكير ملياً بردات الفعل السياسية والشعبية من احتمال اتهام حزب الله.