وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

بينما كان فاروق حسني يخوض حربه الضروس من أجل اليونسكو، كانت القاهرة مشغولة بسؤال آخر: «هل يؤجل الرئيس الدراسة بسبب أنفلونزا الخنازير؟».
فاروق حسني قال للصحف إنه ترشيح الرئيس. بما يعني أن معركته ليست فردية، هي معركة نظام، والحرب ضده هي مؤامرة. مرشح نظام يرتبك بشدة في مواجهة وباء يشغل العالم، لكن ليس إلى درجة الرعب المصرية. وهي درجة تكشف عن عدم ثقة النظام بقدرة أجهزته على مواجهة الوباء أكثر من انشغالها بصحة الناس. الرعب يأتي من أعلى نقطة في النظام. من الرئيس. الرئيس هو الذي صمّم على حرق الخنازير. وهو الذي يصمم الآن على إغلاق المدارس.
الرئيس نفسه مرعوب من كفاءة أجهزة دولته التي يديرها منذ ثلاثين عاماً تقريباً. ولهذا يلجأ إلى الإلغاء والحرق وإلى آخر الأساليب الأمنية. النجاح الوحيد طبعاً للقدرة على البقاء والخلود. أما «صناعة مجتمع» و«إدارة دولة»، فهذا شيء آخر تماماً.
الوزراء والمسؤولون نفّذوا رغبة الرئيس غير المدروسة في التخلّص من الخنازير، ويريدون اليوم تنفيذ رغبته في تأجيل الدراسة والاكتفاء بالبرامج التعليمية في التلفزيون. أجهزة النظام تنفّذ الرغبات من دون تفكير ولا اعتراض. ربما هناك همهمات أو إشارات سرية يحرص صاحبها على ألا تصل إلى أحد، حتى لا يُعاد إنتاجها وتصل إلى الرئيس في إطار وشاية أو ما شابه ذلك.
من هذا النظام رشّح فاروق حسني لليونسكو في معركة تبدو خاسرة من ملامحها الأولى. ورغم أن الحشد يجري على أساس أنه مرشّح مصر، فإن الحقيقة أنه مرشح أجهزة النظام. والفرق كبير جداً. وهذا ما التقطته أصوات معارضة من الغرب واصطادت فيه وجه السلطة القبيح في الثقافة، أي الجانب المتعلق بعلاقة الثقافة بالاستبداد وعلاقتها بالرقابة. وهو جانب مختصر في معارك «اللاساميّة» المستهلكة، التي تصنع من فاروق حسني بطلاً قومياً في مصر.
مشكلة فاروق حسني أنه ابن النظام. تربية أجهزته، وهي أجهزة أمنية في الأساس، وعقلها مسيطَر عليه لدرجة جعلت أحد الساخرين يقول إن مصر «تريد أن يحكم مدير استخباراتها اليونسكو».
ليس إلى هذا الحد طبعاً، لكن المقصود هو أن العقلية الأمنية تريد أن تخرج من مجالها المحلي إلى العالم بثقة شديدة. واعتماداً على تاريخ قديم وتمثيلها لمنطقة كبيرة، تريد نصيبها من المنصب الدولي. وهي رغبة صحيحة، لكنها مع نظام ومرشّح خطأ.
النظام يفتقد كفاءة الإدارة على المستوى المحلي، وأصيبت محاولاته للخروج بخيبات كبيرة، أشهرها المونديال. لأن هذه محافل تعتمد على الكفاءة، وإن كانت العلاقات الدبلوماسية والحسابات السياسية ليست غائبة تماماً.
والمرشح يفتقد الخبرات الكبيرة في الإدارة، رغم طول عمره الوزاري. وهو لم يكن حريصاً على تقديم عناصره المهنية مقارنةً بعناصر سياسية (اختيار الرئيس) أو تاريخية (دور مصر وثقلها الحضاري).
أغفل فاروق حسني المهنية إلى حدّ ما. دخل معركته واعتمد على «شطارته» في إدارة الأزمات، لكنها كانت أيضاً شطارة محلية، خبيرة بتوازنات كبيرة بالنسبة إلى معايير داخلية. أما العالم، فالحسابات تتسع وتتشابك فيه إلى درجة لا يستوعبها المرشح ولا نظامه.
الدكتور يوسف بطرس غالي، وزير المال في الحكومة المصرية، خاض تجربة الترشّح الدولي في مجال مختلف وبمعايير مختلفة. وانتصر في انتخابات منصب مهمّ على مستوى وزراء المال في البنك الدولي.
غالي خاض معركة مهنية، وهو خبير في المجال الذي يحارب فيه. لكن فاروق حسني ابن النظام الذي غابت عنه معايير المهنية والخبرة التي تجعله بالنسبة إلى قطاع عريض من المثقفين المصريين، قبل غيرهم، ناقلاً للفشل من شارع شجرة الدرّ، حيث مقر وزارة الثقافة في مصر إلى باريس حيث يطل اليونسكو.
فاروق حسني احتل موقع الوزير٢٠ عاماً أو يزيد. كان نجاحه فيها هو «احتواء» المثقفين أو ضمّهم إلى «حظيرة» النظام. نجاح التزم فيه بنظرة الدولة الاستبدادية للثقافة والمثقفين. وأضاف إليه بريق البنايات الجديدة. وهي بنايات فضحت بعد محرقة بني سويف الشهيرة التي احترقت فيها مجموعة من المسرحيّين بسبب سوء حال إدارة المبنى.
لم يستغلّ فاروق حسني فترة إقامته الطويلة في الحكومة، وانتقاله من أصغر وزير إلى الوزير الأقدم، في تحريك وضع الثقافة من «مؤسسات» ملحقة بالدولة إلى مؤسسات مستقلة، أو من مؤسسات تفترسها البيروقراطية إلى مؤسسات حرّة تدار بعقليات مختلفة. اكتفى فاروق حسني بأناقة الواجهات، أي إنه أدار عملية تجميل للنظام. لكنه تجميل لم يعمّر مثله على كرسي الوزارة. والنظام الذي منحه الكرسي لا يستطيع الدفع به، هو ومشروع التوظيف الأنيق، لأن هذا يحتاج إلى كفاءة، بينما الكفاءة هي مسامير انهيار النظام.