عبد العلي حامي الدين*إنّ تصريحات مدير «مديرية الوثائق والمستندات»، السيد ياسين المنصوري، لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، تستحق المناقشة لعدة اعتبارات: أولاً، طبيعة الشخص ومكانته في هرم السلطة. ثانياً: طبيعة التصريحات وحمولتها السياسية والفكرية التي تستوجب التحليل من زوايا متعددة. ثالثاً: طبيعة المكان والجهة التي وجّه إليها التصريح. رأى ياسين المنصوري أن «المغرب مهدّد بكلّ من الوهابية المتشددة التي تنطلق من السعودية، وبالتشيّع الذي تنشره إيران»، وأكد أن كلا التوجّهين عدوانيان، مضيفاً أن «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» يمثّل مشكلة كبيرة تقضّ مضجع المغرب، على اعتبار أن «الرياح تهبّ على أشرعة التطرف الإسلامي، الذي يظل مصدر خطر».
وفي سياق آخر، علّق المنصوري على المعتقلين السياسيين الستة في إطار قضية بلعيرج بالقول إنهم «يستغلون أنشطتهم السياسية غطاءً لأنشطة إرهابية»، وقال: «لم يكن هدفنا هو حل أي حزب سياسي. ثمة قانون يتعيّن اتباعه»!
من جهته، صرّح وزير الخارجية، الطيب الفاسي الفهري، للصحيفة الأميركية بالقول: «ندرك أين تكمن المخاطر المحدقة باستقرارنا. ونعرف أن الأطفال يستمعون إلى تلك الخطابات الإسلامية، وعلينا التصرّف بسرعة».
هذه التصريحات دفعت الصحيفة الأميركية إلى اختيار عنوان يحمل أكثر من دلالة: «التطرف الإسلامي يبطئ من وتيرة الإصلاحات المغربية»، قائلة إن «الملك محمد السادس خفض من وتيرة التغيير تحت ضغط التطرف الإسلامي، وبذلك فإن السلطة تظل متمركزة لدى القصر، والديموقراطية صورية أكثر مما هي حقيقية»!
من الواضح أن الرسالة المراد تبليغها إلى الجميع هي أنّ تعثّر الديموقراطية في المغرب مرتبط بالخوف من «التطرف الإسلامي» الذي يتمثّل في التهديدات المحيطة بالمغرب من جرّاء النشاط المسلح لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. من المؤكد أن هذا التنظيم يستقطب بعض الشباب المغاربة الذين يسقطون ضحية تأطير ديني متطرف، في ظل عجز مؤسسات التأطير الديني، الرسمية والشعبية، عن استيعاب جميع شرائح المجتمع في برامج ذات صدقية تلبّي الاحتياجات الروحية والفكرية لمجموع الشباب المغربي. ومن المؤكد أيضاً أن الفكر الذي تنهل منه هذه الجماعات المتطرفة يتغذّى على التناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموجودة في البلد، ويجد القابلية لانتشاره وتغلغله في البيئة الاجتماعية التي يسودها الحرمان والتهميش الاجتماعي والإحساس بالظلم وملاحظة الفوارق الطبقية الهائلة واتساع دائرة المنكرات والمحرمات في المجتمع (بالمنظور الذي تفهم به هذه الجماعات الدين الإسلامي).
ومن المعلوم أيضاً أن أحد أسباب انتشار هذا الفكر مرتبط بالانغلاق السياسي، وانسداد فضاءات التعبير عن الرأي، وغياب الإحساس بوجود مناخ من الحريات يمكّن من ممارسة مواطنة كاملة تعطي للأفراد الحق في ممارسة حقوقهم السياسية الكاملة، وحقهم في اختيار من يحكمهم ومراقبته ومحاسبته. فكلّما تقلّص منسوب الحريات وضعفت مؤشرات الإدماج الاجتماعي واتسعت دائرة الفوارق الاجتماعية، ازدادت حظوظ انتشار الفكر المتطرّف، سواء كان دينياً أو غير ديني.
لذلك، فإن الديموقراطية تمثّل جزءاً من حل مشكلة التطرف، وليست هناك حاجة إلى تعطيل الإصلاحات الديموقراطية بدعوى وجود تطرّف، إسلامي أو غير إسلامي.
وإذا كان من الضروري أن تتخذ المؤسسات والأجهزة الأمنية الاحتياطات الضرورية لتجنيب البلاد مخاطر أي تهديد يمكن أن يمس أمن المواطن وطمأنينته، فإننا لا نرى أن هذه الاحتياطات تمر عبر تأجيل الديموقراطية وانتهاك حقوق الإنسان.
وفي هذا الإطار لا يمكن أن تمر تصريحات السيد ياسين المنصوري بشأن المعتقلين السياسيين الستة على خلفية ملف ما سمّي «خلية بلعيرج»، من دون إبداء بعض التوضيحات وطرح بعض التساؤلات:
لقد قال ياسين المنصوري إن هؤلاء السياسيين «يستغلون أنشطتهم السياسية غطاءً لأنشطة إرهابية»!
ـــــ أولاً، إن هذا الموقف يستبق مرة أخرى دور القضاء الذي لم يقل كلمته النهائية في الموضوع، ويصدر حكماً في حق المتهمين من شأنه التأثير في القضاء، وهو الخطأ نفسه الذي سبق أن وقع فيه كلّ من وزير الداخلية ووزير الاتصال.
ـــــ ثانياً، إن هذا الحكم ليس عليه أي دليل إلى حدود الساعة، فلم تستطع المحكمة طيلة جلسات المحاكمة أن تثبت أن المصطفى المعتصم، الأمين العام لـ«حزب البديل الحضاري» المنحل، ونائبه محمد الأمين الركالة الناطق الرسمي باسم الحزب، ومحمد المرواني الأمين العام لـ«حزب الأمة» غير المعترف به أصلاً، وماء العينين العبادلة عضو المجلس الوطني لـ«حزب العدالة والتنمية»، ومحمد نجيبي عضو المجلس الوطني لـ«الحزب الاشتراكي الموحد»، وعبد الحفيظ السريتي مراسل قناة «المنار» اللبنانية، كانوا يستغلون أنشطتهم السياسية غطاءً لأنشطة إرهابية. بل إن منهم من لا يمارس السياسة أصلاً، كحالة الصحافي عبد الحفيظ السريتي الذي ليس له أي انتماء سياسي. ولذلك فإن الأحكام الصادرة في حقهم عُدّت من طرف الجمعيات الحقوقية والهيئات السياسية وممثّلي الدفاع وعدد من منظمات المجتمع المدني أحكاماً سياسية تفتقر إلى الأدلة القانونية المقنعة.

تهدف لعبة صناعة الخوف من الإسلاميين إلى تعزيز الأجهزة الأمنية
ـــــ ثالثاً، فيما يتعلق بحل حزب «البديل الحضاري»، على عكس ما قال ياسين المنصوري، فإن المشكلة تكمن بالضبط في عدم احترام القانون فيما يتعلق بحل الحزب، لأن الأسباب الموجبة للحل، حسب مقتضيات المادة 57 من قانون الأحزاب، لا تتوافر في «البديل الحضاري»، ولم يثبت إلى اليوم أن هذا الحزب حرّض على قيام تظاهرات مسلحة في الشارع، أو اكتسى من حيث الشكل صبغة مجموعات قتال أو فرق مسلحة خصوصية، أو أنه كان يهدف إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة، أو كان يهدف إلى المس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي، أو بالوحدة الترابية للمملكة. ولذلك فإن اعتقال المعتصم والركالة وحل حزب البديل الحضاري هما قرار سياسي لا قانوني.
من حقنا طرح مجموعة من التساؤلات بشأن تصريحات المنصوري:
هل هي رسالة مشفرة إلى القضاء؟ هل هي للاستهلاك الإعلامي في الخارج، وكسب ودّ الأميركيين وتبرير تعثّر المسار الديموقراطي في المغرب؟ هل هي خطوة استباقية ضد رد فعل المنظمات الحقوقية الدولية على الأحكام الجائرة الصادرة في المرحلة الابتدائية في حق المعتقلين الستة؟ هل يراد اليوم تضخيم ملف هؤلاء وإقحامه في سياق مكافحة الإرهاب لكسب تعاطف الجهات الخارجية وتجنّب تبعات فتح ملف الاعتقال السياسي في المغرب؟ أم هناك إرادة للاستثمار الداخلي لهذه القضية وصناعة الخوف لدى من يهمه الأمر، قصد تعزيز القبضة الأمنية وتأخير الإصلاحات الديموقراطية بدعوى مكافحة الإرهاب؟
في الدول الديموقراطية، تشتغل الأجهزة الأمنية على العموم تحت توجيه المؤسسات السياسية وإشرافها، وتتولى مؤسسة البرلمان وظيفة مراقبة المسؤولين عن الأمن ومساءلتهم دورياً والحيلولة دون وقوع تجاوزات من شأنها المس بكرامة الإنسان وبحقوقه الأساسية، وتتوافر لدى القضاء السلطة والشجاعة الكافيتان لمتابعة رجال الأمن في حالة ارتكابهم تصرفات لا يقرّها القانون. أما في بلادنا، فإن طريقة تعاطي الدولة مع العديد من الملفات تؤكد أن القرار الأمني لا ينضبط للمؤسسات السياسية، بل تحكمه أجندة أخرى. بل إن بعض الوقائع والأحداث تؤكد أن المؤسسات السياسية هي رهينة في يد الأجهزة الأمنية التي يمكنها أن تضخّم العديد من الملفات، وأن «تتلاعب» بالأجهزة المدنية للدولة، وترسم أمامها وقائع مغلوطة بغية انتزاع الاعتراف بأهميتها وترسيخ ضرورة الحاجة إليها وعدم تجاوزها.
يبدو أن لغز اعتقال السياسيين الستة بدأ يتضح: إنها لعبة صناعة الخوف من الإسلاميين قصد تعطيل المسار الديموقراطي وتعزيز موقع الأجهزة الأمنية في هرمية السلطة.
* باحث وعضو المجلس الوطني
لحزب العدالة والتنمية المغربي