مصطفى بسيوني*لا يمكن اعتبار إضراب سائقي وعمال هيئة النقل العام في القاهرة منتصف آب/ أغسطس الماضي، مجرّد واحد من عشرات الإضرابات التي ينظّمها العمال يومياً في مصر. فبعض الإضرابات يكون معناها وتأثيرها أبعد كثيراً من حدود المنشأة أو المرفق الذي يتم فيه الإضراب. يكتسب هذا الإضراب تحديداً أهميته من عدة أسباب، أولها بالطبع هو حجم الإضراب نفسه، فهيئة النقل العام في القاهرة تضم 48 ألف عامل، منهم 18 ألف سائق ومحصِّل، ثم يتوزع الباقون بين الصيانة والخدمات والإدارة. وتشمل خطوط حافلات الهيئة كل القاهرة الكبرى وضواحيها. ورغم تطوير شبكة المترو والسرفيس، إلا أن حافلات ومحطات هيئة النقل العام لا تزال تشهد ازدحاماً وتكدساً دائمين، بما يعني أنها لا تزال وسيلة نقل حيوية في العاصمة التي تضمّ ما يزيد على عشرين مليوناً. لذا، كان من الطبيعي أن تنتقل أصداء الإضراب سريعاً بمجرد بدئه صباح 18 آب/ أغسطس، ويتسع تأثيره مع اختفاء حافلات الهيئة من شوارع القاهرة وتزايد التكدس ساعات الذروة.
حجم الإضراب وتأثيره وارتباطه بمرفق حيوي كالنقل أضيفت إليه درجة راقية من التنظيم والإدارة جعلتاه أكثر فاعلية. يتوزع العاملون في الهيئة على 17 كراجاً في أنحاء القاهرة الكبرى، وتنظيم الإضراب في الكراجات جميعاً يحتاج إلى آليات اتصال وتنظيم دقيقة، وخاصة في ظلّ المتابعات الأمنية والضغوط الإدارية. وقد بدأ الإضراب في اليوم الأول بسبع كراجات كانت هي الأكبر والأكثر تأثيراً في حركة النقل، وسرعان ما انضمّت باقي المواقف إلى الإضراب، حتى توقفت كلها في اليوم التالي، واختفت حافلات النقل العام من الشوارع وبدا تأثير الإضراب لا يطاق، ما أشار إلى أن تدخلاً كان سيقع ويحسم الموقف، وهو ما جرى بالفعل. فالإضراب انتهى بتدخل من أحمد نظيف رئيس الوزراء.
التنظيم والدقة اللذان برزا في الإضراب عبّرا من ناحية عن درجة متقدمة من الوعي وعن المستوى الذي وصلت إليه حركة عمال النقل ـــــ من ناحية أخرى ـــــ بعد إضرابهم في أيار/ مايو 2007، الذي شمل ثلاثة كراجات فقط، واستمر ليوم واحد، وانتهى بوعود لم يتمّ تنفيذها. أمّا الإضراب الأخير، فقد تدخل نظيف للمرة الأولى خلاله بوعود بتنفيذ المطالب التي انصبّت على الأجور وتحسين شروط العمل وعدم تحميل السائقين غرامات المرور العشوائية. إلا أن العمال رفضوا الوعود ومزقوا المنشور الذي وزع من الإدارة على المواقف وهاجموا قادة النقابة الرسمية الذين حاولوا إقناعهم بإنهاء الإضراب بناءً على تلك الوعود وأصرّوا على إصدار منشور رسمي بالاستجابة للمطالب، وهو ما كان بالفعل مساء اليوم الثاني للإضراب.
حمل توقيت إضراب عمال هيئة النقل العام في القاهرة معنى هاماً للحركة العمالية في مصر. ليس فقط لأنه جاء أثناء زيارة مبارك لأميركا، ولا لتوقيته قبل شهر رمضان بأيام قليلة، بما يعني تضاعف تأثيره لما تشهده العاصمة من تزايد في الحركة في تلك الأيام. ولكن الأهم أن الإضراب جاء في التوقيت الذي عمدت فيه الدولة إلى تجاهل الإضرابات العمالية، لفرض اليأس على العمال بحيث ينهون إضراباتهم من دون تنفيذ المطالب، بغاية تسريب الإحباط إلى الحركة العمالية وإنماء شعور بعدم جدوى الاحتجاج. ظهر هذا الاتجاه بقوة لدى السلطات في الفترة الأخيرة، وخاصة في تعاملها مع إضراب خبراء وزارة العدل، وعمال شركة السويس للأسمدة، وعمال شركة طنطا للكتان. فقد استمرت تلك الإضرابات لشهور في محاولة للضغط على الحكومة وأصحاب الأعمال لتلبية مطالب العمال. ومع تجاهلها، انهار الأولان من دون تلبية المطالب، بينما لا يزال عمال طنطا للكتان، للشهر الرابع على التوالي، مستمرين في إضرابهم.
استطاع عمال النقل العام في إضراب آب/ أغسطس تحدّي منحى الحكومة هذا، فهم ليسوا من يمكن تجاهل إضرابهم، لا لشهور ولا حتى لساعات. كما إن إرهابهم لم يفلح، ولم يبق أمام الحكومة إلا تنفيذ المطالب. ومن هنا يكتسب هذا الإضراب أهمية خاصة جداً للحركة العمالية المصرية، وفي لحظة حرجة تقرر فيها الدولة سياسات أكثر عداء تجاه الحركة العمالية تتمثل بممارسة الضغوط

يأتي عمال النقل العام ليؤكدوا أن الطبقة العاملة لا يزال لديها مفاجآت

الأمنية الشديدة وملاحقة القيادات العمالية في القطاعات الهامة والمتفجرة، مثل عمال البريد الذين شنت عليهم حملة شرسة في شهر تموز/ يوليو الماضي، وموظفي الضرائب العقارية الذين أحيل نقيبهم إلى المحكمة بتهمة تأسيس نقابة مستقلة، وأحيلت قياداتهم إلى النيابة الإدارية بتهمة جمع اشتراكات، وعمال المحلة الذين نقلت قياداتهم من داخل الشركة. في وقت كهذا، يمكن اعتبار انتصار عمال النقل العام بهذه الطريقة الحاسمة انتصاراً للحركة العمالية ككل، وخاصة مع تذكّر التاريخ العمالي للنقل العام في مصر، فقد اعتبر إضرابهم في تموز/ يوليو 1976 الشرارة الأولى لانتفاضة الخبز في كانون الثاني/ يناير 1977، كما كان لاستمالة عبد الناصر لنقابة النقل في 1954 أثر حاسم في صراعه على السلطة مع محمد نجيب.
كان إذاً وزن عمال النقل العام دائماً استثنائياً في الحركة العمالية، وتحركهم اليوم بهذه الدرجة من النظام والتماسك يشفّان عن تأثير أكبر لهم فى الفترة المقبلة، وخاصة أن الإضراب الأخير لم يحسم كل المطالب. فيكفي أن نطالع قسائم الأجور لبعض العاملين لنلاحظ مدى التدهور الذي يعانون منه، فقسيمة راتب سائق تشير إلى أن راتبه الصافي 290 جنيهاً شهرياً أي أقل من 60 دولاراً بعد خمس سنوات خدمة. وآخر راتبه 413 جنيهاً، أي أقل من 80 دولاراً بعد 18 سنة خدمة. وكل الأجور تتراوح بين هذين الحدّين، مع إضافة نسبة لا تصل إلى 50 في المئة كحوافز غير ثابتة. هذه الأجور المتدنية بشدة تجبر العاملين في الهيئة، وخاصة السائقين، على العمل الإضافي خارجها، والتعرض في شوارع القاهرة لواحدة من أعلى نسب التلوث والضوضاء والازدحام والضغط النفسي في العالم. الحركة لا تزال في بدايتها، وخاصة مع تزايد الحديث عن خصخصة الهيئة، ما يعني المزيد من الاضطهاد للعمال. وفي وجود نقابة رسمية متواطئة مع الإدارة، وفي المقابل، وجود تنظيم ذاتي للعمال ناجح في تنظيم الإضرابات، فإن تطور الحركة في اتجاه تأسيس نقابة مستقلة أمر وارد.
على مدى السنوات الثلاث السابقة، فاجأت الحركة العمالية الجميع، وأخلص أصدقاؤها الذين لم تصل توقعاتهم لما قام به عمال المحلة في إضرابهم في 2006 فأيقظ مصر كلها، أو تظاهرتهم في شباط/ فبراير 2008 من أجل حدّ أدنى للأجور لكل العمال. ولم يتوقع أحد أن يبني 37 ألفاً من موظفي الضرائب العقارية نقابة مستقلة في مواجهة التنظيم النقابي الذي ترعاه السلطة. ولم يكن يتوقع أحد أن تفرض الحركة العمالية حق الإضراب والتفاوض والتنظيم بالطريقة التي فرضتها. وبعد كل ذلك، يأتي عمال النقل العام ليؤكدوا أن الطبقة العاملة لا يزال لديها الكثير من المفاجآت.
* صحافي مصري