بعد أربعة أشهر على الاعتصام الذي نفّذه لاجئون عراقيون وسودانيون أمام مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ها هم يعودون اليوم إلى تنفيذ اعتصام جديد يريدونه نهائياً لحلّ مشاكلهم
مهى زراقط
يحار المتابع لقضية اللاجئين العراقيين في لبنان من أين يبدأ رواية المشكلة. هي الحيرة نفسها التي يعيشها اللاجئون عندما يقرّرون أن يحكوا معاناتهم. والغريب أنها أيضاً حيرة الممثل الإقليمي لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان (راجع الإطار).
نبدأ من اللاجئين، إذ يمثّل ما يصفونه بـ“الفساد في المفوضية” حجّتهم لتبرير ارتفاع أصواتهم ورغباتهم في الاعتصام الذي سيبدأونه اليوم. لكن الغوص في تفاصيل حياتهم وظروفها، يجعل الاعتصام أقلّ ما يجب عليهم القيام به، وربما هذا ما يجعل الهدف من الاعتصام ملتبساً. فمن حيث المبدأ، يقوم عمل المفوضية في لبنان على استقبال اللاجئين وإعداد ملفاتهم تمهيداً لإعادة توطينهم في بلد ثالث. ويمكن الافتراض أن المشكلة هي في عدم قيام المفوضية بهذه المهمة، وهذا صحيح في رأي أصحاب الدعوة إلى الاعتصام، لكنه ليس كلّ شيء. هناك أسباب أخرى تُختصر في كلمات ثلاث: الفقر، المرض والخوف. كلمات تبقى، رغم قساوتها، غير معبّرة عن الواقع المزري الذي تعيش في كنفه مئات العائلات العراقية في لبنان. حسن زيرجاوي مثلاً.
يقيم زيرجاوي في الشويفات. المنزل الذي أكلته الرطوبة، مؤلف من غرفتين، مطبخ، حمام. لكن لا يمكن زائر المنزل الاكتفاء بهذا الوصف إذا كان معنيّاً فعلاً بنقل ظروف حياة الرجل مع عائلته المؤلفة من أربع فتيات وطفل صغير. فالمنزل يقع في زاروب، متفرّع عن عدة زواريب، في الشويفات، حيث يكبر حزام بؤس جديد على بعد أمتار معدودة عن حي السلم، حزام البؤس الأشهر، وحيث تكثر المشاكل ما يجعل أفراد العائلة مقيمين في سجن صغير لا يُسمح لهم بالخروج منه خوفاً عليهم.
مهين أن نلجأ إلى الاعتصام في كلّ مرة نحتاج فيها للدواء
هناك، وجد اللاجئ العراقي، الذي غادر بغداد بعد أيام من سقوطها عام 2003، هذا المنزل بأجرة شهرية قيمتها 200 دولار يقول إنه لا يملك منها شيئاً. فهو عاطل من العمل منذ شهرين تقريباً، وبناته اللواتي حاولن مساعدته، عملن أكثر من أربعة أشهر في أماكن مختلفة، لكنهن كنّ يتعرضن دوماً لخداع أرباب العمل فلا يتقاضين شيئاً. تؤكد زوجته هذا الأمر عندما تفتح البراد أمامنا فنجده خالياً من أي مواد غذائية، باستثناء ربطة خبز، تقول إن جارتها اللبنانية، التي تعمل في جمعية أهلية حملتها إليها صباحاً، مع كيس مليء بالخضار وضعته جانباً استعداداًً لوجبة الإفطار. السيدة التي التحقت بزوجها عام 2006، بعد مضايقات الميليشيات لبناتها، تعاني أمراضاً مختلفة أبرزها كسور في الحوض، عدا عن أمراض عصبية تدفعها وزوجها وابنتها الكبرى إلى تناول مهدّئات توفرها لهم جمعية “restart”. كما يحصلون على مساعدة اجتماعية قوامها قسيمة قيمتها 50 دولاراً “مرة كل 6 أشهر”.
المشكلة الرئيسيّة لزيرجاوي هي أنه فقد الأمل في تحسين ظروف حياته بعدما حكمت المفوضية على ملفه بأنه غير مطابق لشروط إعادة التوطين في بلد ثالث. السبب أنه خدم عسكرياً في شمال العراق، ما يجعل احتمال أن تكون يداه “ملوثتين بالدماء” كبيراً. والدول المضيفة ترفض استقبال “مجرمين” على أراضيها. بعد أخذ ورد، اقتنع زيرجاوي بهذه الحجة، لكنه يسأل عن ذنب عائلته “فلنفترض أنني مجرم كما يقولون، علماً أني أنا من أخبرتهم بخدمتي في الشمال، ولو لم أفعل لما كانوا سيعرفون، ما ذنب الأطفال الذي يفقدون مستقبلهم؟”.
سبب مماثل دفع إلى رفض ملف محمد الساعدي الذي خدم في الحرس الجمهوري العراقي، وصالح بريسم العضو في حزب البعث. والأخيران هما منظّما الاعتصام. الأول يعاني أمراضاً مزمنة ويحتاج إلى علاج دائم لا توفّره له المساعدات الاجتماعية للمفوضية “يقدّمون إليّ الدواء بقيمة 85% وعليّ أنا أن أدفع استشارة الأطباء، وهذا ما لا أملكه لأن وضعي الصحي لا يسمح لي بالعمل”. أما صالح، فيقول إنه مهدّد بالقتل من عشائر عراقية بسبب عدد من الإطلالات الإعلامية “ولا أحد يحميني أو حتى يصدّقني”. يحمل الرجلان وثائق تكشف “الفساد، والاستنسابية التي يتعامل بها موظفو المفوضية مع الملفات” يقول صالح، رافضاً الحجج القانونية التي تقدّم إليهما عن شروط الدول المضيفة “هناك أمراء في القاعدة سافروا عبر المفوضية وصاروا اليوم في أميركا، وهناك فلسطينيون الجنسية وعرب باتوا يحملون بطاقة المفوضية للحصول على مساعدات”. يعرض صالح صوراً لمستندات تثبت صحة ما يقوله، يضيف إليها بطاقتَي لجوء عليهما صورة الشخص نفسه لكن باسم مختلف “وهذا يعني أن موظفي المفوضية مستعدون لتغيير الملفات في مقابل الرشوة”. هما لا يملكان مستندات تؤكّد حصول الرشوة، لكنهما يحملان نماذج عن وثائق شخصية مزوّرة، ويرشدان إلى الأماكن التي يمكن الحصول عن طريقها على هذه الوثائق.
هذه المعلومات كانت سبباً للاعتصام الذي نُفّذ قبل أربعة أشهر (راجع الأخبار العددان 819 و820)، للمطالبة بلقاء لجنة تفتيش دولية كانت تزور مكتب المفوضية في لبنان. وجرى الاتفاق يومها على قيام اللاجئين بمراسلة مكتب المفوضية في جنيف، وإرسال الشكاوى والأدلة التي في حوزتهم للتحقيق فيها. فلماذا الاعتصام اليوم أمام مكتب بيروت ما دامت العلاقة باتت مع جنيف؟ وخصوصاً عندما يؤكد صالح أن المراسلات لا تزال مستمرة مع جنيف، وأن أحد أعضاء لجنة التفتيش اتصل به وسأله عن أسماء الموظفين التي ذكرها في رسائله، وهو يعوّل على قدوم لجنة تحقيق خاصة إلى لبنان ليقدّم إليها مستندات أخرى لا تزال في حوزته.
يفصل الساعدي بين المطالب الخاصة بالمساعدات الاجتماعية، وبين الشكاوى الموجّهة إلى جنيف. “نعتصم للحصول على حقوقنا. لا يجوز أن نلجأ إلى الاعتصام في كلّ مرة نحتاج فيها إلى دواء أو إلى مبلغ مالي. هذا أمر مهين”. هذا ما فعله اللاجئ السوداني عبد المنعم ابراهيم. فخلال الشهور الأربعة الفائتة اعتصم أمام باب المفوضية وأعلن الإضراب عن الطعام للمطالبة بالدواء وأجرة الغرفة التي يقيم فيها. يؤكد الساعدي أن هناك عائلات تحصل على معونات شهرية مستمرة “وهذا ما نريد الحصول عليه”. هناك أيضاً سلسة مطالب أخرى يختصرها بنقاط خمس: أن يسمحوا لكلّ اللاجئين بدخول المفوضية، ويستغنوا عن اللائحة السوداء، أن يجري استقبالهم بلطف، وخصوصاً أن المشاحنات التي كانت تجري مع موظفي الاستقبال سبّبت توتراً بين الطرفين، إعادة النظر في الملفات وإجراء مقابلات جديدة، إيجاد حلول للسجناء وتوفير الجماية لهم، وعدم استخدام الأسلوب الاستخباري في التعامل مع اللاجئين.
هذه المطالب أبلغها الساعدي إلى مسؤول الحماية في المفوضية الذي لم يرفضها بل طلب مهلة لتنفيذها، يفترض أن تنتهي يعد يومين. “خلال هذا الوقت اتصلوا بعدد من اللاجئين ونحن نتوقع أن يحاولوا شقّ صفوفنا ليأتي الاعتصام ضعيفاً، لكننا سنبقى مصرين على الاستمرار فيه لأنه الخيار الوحيد الذي تركوه لنا” يقول الساعدي.


جاكميه: لا أعرف ماذا يريدون

يعترف مدير المفوضية ستيفان جاكميه بصعوبة فهم ما يريده المعتصمون “هم أنفسهم كلّ مرة. آمل أن يأتوا مع مجموعة هذ المرة فقد تكون هناك مشاكل حقيقية نعمل على حلّها”. وهو التقى منظمي الاعتصام قبل فترة “بدأ الحديث معهم بطرح أمور عامة، ثم انتقلوا إلى الحديث عن ملفاتهم الفردية”. يقول إنهم تحدّثوا عن فساد “لكنهم رفضوا ذكر أسماء، ولا توجد لديهم أدلة. أنا لم أطلب منهم وصلاً بتسلّم رشوة مثلاً، لكني طلبت معلومة واضحة تتيح لنا التحقيق فيها، كما شجعتهم على مراسلة جنيف وإرسال المعلومات التي قد يخشون من إفشائها هنا”. وعن الوثائق المزوّرة فهو يقرّ بوجودها “وبتنا نميّزها لكنها ليست سبباً لرفض ملف بقدر ما تدلّ إلى وجود مشكلة لدى اللاجئ”. في رأيه “المعتصمون غير راضين عن ظروف حياتهم، وأنا أفهمهم لكني لا أستطيع إلا الالتزام بشروط إعادة التوطين حتى لو كانت غير موضوعية. نحن لدينا حكاياتهم التي أخبرونا إياها، وبناءً على ذلك كُتبت ملفاتهم”. معرباً عن استعداده لإعادة درس الملفات “يمكننا أحياناً أن نرتكب أخطاءً”. أما بالنسبة إلى الأشخاص الممنوعين من دخول المفوضية فيوضح “ولا مرة كان المنع مطلقاً، لكن من تحكي عنهم هم أشخاص اعتدوا على موظفين، وكسروا معدّات في المكتب، لذلك لا يمكنني أن أعرّض الموظفين وبقية اللاجئين لهذا العنف”. كما أكد أن المساعدات الاجتماعية لا تقدّم دائماً، لأن الموازنة لا تسمح، مبدياً استعداه لدراسة الحالات التي قد يبلّغ عنها.