ياسين تملالي *في 2 أيلول / سبتمبر الماضي، وفي أحد أحياء العاصمة الجزائرية، احتجزت الشرطة شاباً وشابة طوال ليلة كاملة ثم أودعهما المدعي العام السجن تمهيداً لمحاكمتهما بتهمة «التعريض بالإسلام ومبادئه»، التي يعاقب عليها قانون العقوبات في مادته 144ــــ2ــــ2 بالسجن من 3 إلى 5 سنوات. هل شتم هذان الشابان الله أو الرسول؟ لا. هل هزئا على الملأ بمقدسات الجزائريين الدينية؟ لا. سُجِنا لأن دورية شرطة باغتتهما وهما يفطران في رمضان، في سيارتهما، بعيداً عن العيون. وحسب ما أوردته جريدة «الوطن» الجزائرية، لولا تدخل «شخصية مهمة في النظام» لكان مصيرهما المصير ذاته لشبان غيرهم، حُكم عليهم في 2008 بالسجن 3 سنوات لإفطارهم في شهر الصيام، ثم برّأتهم محكمة النقض مكتفية بتوبيخهم على «استهتارهم بمشاعر الصائمين».
يحدث هذا في بلد نجا وما كاد من شبح الدولة الدينية ودفع ثمن ذلك حرباً أهلية ضروساً أنهكت قواه ودمرته أيما تدمير. يحدث في الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، وهي رسمياً دولة مدنية دستورها، على نقائصه الكثيرة، يحمي الحريات الفردية (ومنها حرية المعتقد)، ولا ينص أي من قوانينها على تجريم الإفطار في رمضان، اللهم إلا إذا اعتبرنا قمع «التعريض بمبادئ الإسلام» في قانون العقوبات أمراً لغير الصائمين بالتخفي عن الأنظار أو مغادرة البلاد.
قد يُقال إن مثل هذه الوقائع «حوادث» شاذة لا يقاس عليها وإن الجزائر بمنأى عن التحول إلى دولة تنتهك حرية الاعتقاد. والحقيقة أن غيرها من الأدلة كثير على أن مشروع «أسلمة المجتمع» الذي فشلت «جبهة الإنقاذ الإسلامية» بين 1989 و1992 في تحقيقه قطع أشواطاً على طريق التجسيد في السنوات الأخيرة. لنذكر كل الجزائريين المسيحيين الذين اعتقلوا بتهمة ممارسة التبشير لا لشيء سوى أن الشرطة عثرت في حوزتهم على نسخ من الإنجيل. لنذكر العوائق التي وضعها البرلمان في سبيل ممارسة غير المسلمين لشعائر دينهم. لنذكر إقالة مدير المكتبة الوطنية، أمين الزاوي، في تشرين الأول / أكتوبر 2008، لا لسبب سوى أن أحد ضيوفه، أدونيس، أدان (كعادته في كل ندوة منذ عشرات السنين) «الأثقال الثيولوجية التي ينوء بحملها الفكر العربي». لنذكر أن جمعية العلماء المسلمين (وهي منظمة كانت تحتضر قبل مجيء الرئيس بوتفليقة إلى الرئاسة) باركت اعتقال «المبشرين» المزعومين والتضييق على حريات غير المسلمين، ناهيك عن إقالة أمين الزاوي، بما يليق من الكلام بمحاكم التفتيش.
كل هذه «الحوادث» تؤكد أن دعاة الدولة الدينية المتسترين تحت غطاء «الدفاع عن الإسلام» (كجمعية العلماء ومختلف المنظمات المنبثقة عن تيار الإخوان المسلمين) هي في طور القيام بانقلاب تدريجي هادئ على مبدأ مدنية الدولة، وهو مبدأ ما فتئ يتآكل منذ بداية الثمانينيات بفعل تنازلات السلطة للحركات الدينية طمعاً في تحجيمها والاستئثار بقواعدها.
ويمكن القول إن خطاب جمعية العلماء المهووس بمشكلة متخيلة هي «انسلاخ الجزائريين من دينهم»، يمثّل السند الأيديولوجي لانتهاكات الحريات الفردية والدينية خلال العشرية الأخيرة، من ملاحقة للشباب في الحدائق في 2002 بتهمة «خدش الحياء العام»، إلى التصويت على قانون يضيق ممارسة غير المسلمين لشعائر أديانهم في شباط / فبراير 2006، وأخيراً توقيف المفطرين في رمضان بتهمة التعريض بالإسلام.

«أسلمة المجتمع» الذي فشلت «جبهة الإنقاذ» بتحقيقه، قطع أشواطاً كبيرة
ويمكن القول إن رئيس هذه المنظمة، عبد الرحمن شيبان (وزير الأوقاف والشؤون الدينية خلال فترة حكم الرئيس الشاذلي بن جديد) أصبح اليوم، بعدما كاد يخمد ذكره، شخصية يحسب لها ألف حساب، فلا يمر أسبوع دون أن يهاجم «العلمانيين» (وكما لو كانوا الآمرين الناهين في الجزائر) أو يحذّر من «مخاطر انتشار النصرانية» أو ينتقد «مظاهر التحلل الأخلاقي» لدى الشباب. ولا مبالغة إن قلنا إنه تحول إلى «مفتي الجمهورية» الرسمي، في بلد ليس فيه ما يشبه هيئة الإفتاء.
والمثير للانتباه أنّ جمعية العلماء (مثلها في ذلك مثل حركة مجتمع السلم المنبثقة عن «الإخوان المسلمين»، وهي أحد أعضاء الائتلاف الحكومي) تنأى بنفسها ما استطاعت عن التطرق إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي المزري الذي تمر به البلاد، ناهيك عن تحميل السلطة مسؤوليته. لا اهتمام لجريدتها «البصائر» بانتشار الفقر والبطالة وخزائن الدولة تفيض بمليارات الدولارات، ولا حديث لها عن الفضائح المجلجلة التي تبين كل يوم تهافت التسيير الحكومي. كل ما تنشره، إن لم يكن فخراً بماضيها التليد خلال الحقبة الاستعمارية أو استحضاراً لذكرى مؤسسيها عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، فهو «دفاع عن الدين» ضد أعداء وهميين، كما لو كانت الجزائر دولة ملحدة والمسلمون فيها أقلية صغيرة مقموعة.
ما أسعد النظام بمثل هذا التيارات التي تلزم الصمت عن سياسته، وبدل انتقاده، تنتقد المجتمع لأنه «غير متدين بما فيه الكفاية». لذا نراه يبوّئها مكانة حامي حمى الدين ويستجيب لمطالبها المتعلقة بـ«أسلمة مظاهر الحياة العامة» بإغلاق محال بيع الكحول، ومحاكمة من يشتبه في تنصره بتهمة ممارسة التبشير، وسجن كل من سوّلت له نفسه الإفطار في رمضان. وما أسعده بهذه الصفقة التي طالما حلم بعقدها مع «جبهة الإنقاذ» في أواخر الثمانينيات: له أن «يعولم» الجزائر حتى آخر رمق فيها، وللإسلاميين، بعونه ومساعدته، أن يؤسلموا المجتمع ما طاب لهم ذلك.
* صحافي جزائري