خليل صويلح«أسعى جهدي ما استطعت، ألا أسلك طريقاً كنت قد طرقته سابقاً». على هدى هذه الفكرة التي قالها
ابن بطوطة في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار»، حاول أسعد عرابي خلال مسيرته التشكيلية التي قاربت نصف قرن، أن يؤسس محترفه الخاص، ويصوغ لوحته المحلية. إقامته في باريس لم تخضع هذه اللوحة لشروط جديدة، بل زادتها تمترساً وراء «الضوء المشرقي». هذا الضوء السرّي الذي ظل يرافقه في المغترب، هو ما أكّد هويته النهضوية، من دون أن يهمل مقترحات الحداثة الأوروبية.
يعيد أسعد عرابي الفضل في ذلك إلى معلمه الأول ناظم الجعفري، أحد أبرز رواد المحترف السوري: «في لوحته يشع ضوء من مكان ما في اللوحة». الجعفري هو أيضاً من نصحه بالانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق. المفاجأة التي أذهلت مجايليه أنّه حصل على العلامة التامة عن مشروع تخرجه. وهذا ما لم تشهده كلية الفنون إلى اليوم. لكن عرابي يعتبر أن المفترق الحاسم في حياته، كان قراره الاستقرار في باريس: «تعلّمتُ في باريس إعادة قراءة تاريخ الفن ومراجعة الأصول، وهذا ما انعكس على تجربتي تقنياً لجهة اللون ونسبة الضوء في اللوحة».
بقيت دمشق القديمة «مشروع تخرجه»، ترافقه طويلاً كمخزون لا ينضب. كأن هذا الإلحاح على استعادة المدينة القديمة، إشارة إنذار مبكرة لما تتعرّض له من تدمير بيئي، أطاح جمالياتها المعمارية وروحها الحضارية المتجددة. «يتضاعف نزيف اللوحة مع اغتيال مدن حميمة عايشتها بالروح منذ الطفولة». هكذا سارت تجربة هذا التشكيلي جنباً إلى جنب مع مقترحاته النقدية والجمالية. اشتغل تسع سنوات على أطروحته عن «العلاقة بين التصوير والموسيقى في الفن الإسلامي» التي ناقشها في جامعة السوربون. كما أماط اللثام عن أهمية الكنوز المخبوءة في رسوم المخطوطات الإسلامية القديمة، مرتكزة على فكرة جوهرية تنسب العلاقة الجدلية بين رسامي المخطوطات والتجربة الصوفية إلى فضاء وجداني واحد، وذلك بتحويل الشطح كطريقة صوفية إلى شطح بصري. ويلفت عرابي إلى أن «لعبة التحريم» غطّت بغبارها على الذاكرة التصويرية العربية، وهو «غبار مشبوه بقصد حرمان العرب من تراثهم، وتحجيم أهمية التصوير الحقيقي».
في كتابه «صدمة الحداثة في اللوحة العربية»، نقع على وثيقة مهمة تقول إنّ الإسلام لم يحرّم الصورة، كما هو شائع في أدبيات وفتاوى كثيرة. وهو بذلك يدحض كل منافذ الشك بما يخص تحريم الصورة... لكنّ هذا الرأي لم يثر السجال المتوقع: «أتحدى من يثبت عكس ذلك، وأؤكد أن الجدل الشرعي هذا يمثّل جزءاً من الحركة المناهضة للتجسيد التصويري. وهي بذلك تلتقي مع الاستعمار الثقافي الذي أفرغ متاحفنا من هذه الذاكرة الخصبة». ويضيف منفعلاً: «هناك محاولات لتسطيح الثقافة التشكيلية العربية. لعل الحروفية الاستشراقية المسطّحة أحد وجوهها، وما تجارب رشيد قريشي، والمهداوي ــــ على نحوٍ خاص ــــ إلا نموذج لهذا الاتجاه الاستشراقي الذي يصبّ عن قصد أو من دونه في سياق الفكرة الأصولية».
لا تتوقف مأساة التشكيل العربي عند حدود مجاراة الموضة، بل تتعداها إلى غياب الأرشيف الذي يحفظ الأصول الأولى. وإذا بتجارب عربية هجينة تتصدر الواجهة بانتسابها إلى ما بعد الحداثة، من دون أن تتمفصل عضوياً في سياقها الطبيعي. «انظر إلى بعض التجارب التشكيلية في بلدان الخليج العربي التي استوردت نتائج جاهزة ومؤسلبة، تقع، في نهاية المطاف، في خانة الذاكرة المخصيّة». ويلفت عرابي إلى مشكلة أخرى تتعلق بمحترف المشرق العربي الذي بدأ نهضوياً في مطلع القرن العشرين، ثم فقد مقترحاته بما يعادل نصف قرن عن حداثة السبعينيات والثمانينيات أوروبياً.
إنّها «حداثة افتجائية» وفقاً لما يقول الباحث الجمالي السوري، لا تتكئ على سند حقيقي وصلب. حداثة مبتورة الساقين على عكس ما أنجزته المشاريع النهضوية العربية الأولى التي اعتمدت التوليف بين الأنا والآخر «أدعو إلى نهضوية جديدة لترميم الفجوة، وإنبات جذور الحداثة من الداخل، لا من الخارج، كما هو حاصل اليوم».
بين مرسمه الباريسي ومرسمه الدمشقي، تعيش لوحة أسعد عرابي ترحالاً مشابهاً في اللون والخطوط. «هناك لوحات أبدأها في باريس وأكملها في دمشق، فالمكان بالنسبة إليّ هو ذاكرة تراكمية أكثر منه هوية جغرافية، وهذا ما منح شغلي رؤية شمولية، من دون أن أفقد خصائصي الشرقية».
نزوره في مرسمه الدمشقي في «الجسر الأبيض»، فنجده منهمكاً في إنجاز مشروعه الجديد عن الجسد. ينفتح الحوار على معنى اختفاء العري من المحترف السوري، وعن ذلك التناقض الحاد بين حقبة الستينيات حين كان وجود الموديل شأناً مألوفاً في كلية الفنون الجميلة في دمشق، وبين الراهن الذي يشهد اختفاءه. اليوم معظم الغاليريهات الدمشقية ترفض عرض العري، ووزارة الثقافة نفسها تمنعه خلال المعرض السنوي. يقول «التناقض الحاد بين المتحجب والمتعري له علاقة مباشرة بالالتباس الاجتماعي، والأصولية الجديدة. التطرف موجود لدى الاتجاهين، وهما يلتقيان على مقعد واحد في الحديقة، لكن ما أرسمه هو نبش للميثولوجيا بمعناها المعاصر، مع استحضار الفراغ المعماري في ذاكرة المدينة. إذ يتحوّل العاري إلى لبوس صباغي وغرافيكي بعيداً عن مدلوله الفضائحي». وينبّه إلى أنّ «العاري في اللوحة، يشبه تشريح الجثة في كلية الطب، ذلك أنّ القوة التعبيرية برسمه أشد حضوراً من دلالته الجنسية». ثم يتساءل: «هل علينا اليوم أن نلغي رودان أو جبران خليل جبران في العاري؟ هل علينا أن نطمس جزءاً مفصلياً في تاريخ الفن».
في إحدى لوحاته الجديدة، نرى جسداً أنثوياً عارياً قلب رأساً على عقب، بمواجهة جسد متحجب بملاءة سوداء. هذا التناقض على قماشة واحدة يفسّره عرابي بقوله: «أشتغل على الحدس، سواء في اللوحة أو في الموضوعات. ولا أعلم إلى أين تقودني ضربة الفرشاة؟».


5 تواريخ

1941
الولادة في دمشق لأب لبناني وأم سورية

1961
الانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق

1976
الاستقرار في باريس

1999
صدور كتابه «وجوه الحداثة في اللوحة العربية» (دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة)

2009
التحضير لمعرض فردي، لمناسبة افتتاح غاليري «أيام» في بيروت في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل