خالد صاغيةكلّما واجه تأليف الحكومة في لبنان حائطاً مسدوداً، تُطرَح فكرة حكومة التكنوقراط بصفتها المخرج الملائم. وغالباً ما تلقى الفكرة ارتياحاً شعبيّاً، نظراً إلى التناقض الكامن في نظرة اللبنانيّين إلى سياسيّيهم: فمن جهة، يلتصقون بمواقفهم التصاقاً شديداً ويجدّدون لهم في كلّ مناسبة شعبيّة أو انتخابيّة، ومن جهة ثانية لا يتوقّفون عن قذف السياسيّين بأقسى النعوت بدءاً من الفساد والسرقة انتهاءً بالطائفيّة والعمالة. يبدو مَخرج التكنوقراط هروباً من هذا التناقض الراسخ في الأذهان، وتخلّصاً من المناكفات السياسيّة المملّة والمكلفة.
يُصوَّر عالم التكنوقراط كمساحة هادئة وموضوعيّة تعتمد الحقائق العلميّة والحلول التقنيّة بدلاً من المصالح الخاصّة ومحاصصة الطوائف. ولمّا كان التكنوقراط من غير السياسيّين، ولا يخضعون بالتالي للضغوط الشعبيّة ومسايرة مزاج الشارع، فإنّ المتوقّع منهم البحث عن حلول لمشاكل المواطنين العالقة، آخذين في الاعتبار المصلحة العامّة ليس إلّا. ويعزّز ذلك تحرُّر الحكومة من توزير وجوه سياسيّة معروفة، ممّا يتيح لأهل الاختصاص أنفسهم أن يتسلموا الوزارات، كلٌّ بحسب اختصاصه.
هذه النظرة إلى حكومة التكنوقراط متفائلة تفاؤلاً غير بريء، لأسباب عدّة:
أوّلاً، حتّى في حياة سياسيّة طبيعيّة، لا وجود لهذا الفرد التكنوقراط الذي لا يحتاج إلى نظّارتين مؤدلجتين لرؤية الواقع. فما مِن رأي علميّ واحد في الخصخصة مثلاً. هناك خبير يعتقد أنّ الخصخصة تزيد الفاعليّة، وهناك خبير يعتقد أنّ الخصخصة لا تزيد الفاعليّة، وهناك خبير يعتقد أنّ الخصخصة، وإن كانت تزيد الفاعليّة، فإنّها تثقل كاهل المواطنين وتزيد التفاوت الطبقي في المجتمعات. وفي جعبة كلّ واحد من هؤلاء الخبراء «الموضوعيّين» رزمة من الأبحاث العلمية «الموضوعية» التي تدعم رأيه.
ثانياً، بما أنّنا لسنا في حياة سياسيّة طبيعيّة، وبما أنّنا نعيش في حقبة استقطاب سياسيّ حادّ، فإنّ الاختصاص العلميّ لا يمثّل درعاً ضدّ تأثيرات هذه الاستقطابات.
ثالثاً، حتّى لو تجاوزنا كلّ ذلك، فإنّ التكنوقراط سيعملون مكبَّلين بإدارات ينخرها الفساد والمحسوبيّات من رأسها إلى أخمص قدميها، ممّا يجعل حركتهم مستحيلة من دون الرجوع إلى المراجع السياسيّة المتنازعة والمتنافسة.
لكلّ هذه الأسباب وغيرها، يبدو طرح حكومة التكنوقراط مجرّد وهم إضافيّ يرميه الطاقم السياسي في وجه المواطنين لعلّهم يتسلّون خلال فرصة الأعياد المقبلة.