strong>سعد الله مزرعاني *إنّها الذكرى السنوية لتأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في السادس عشر من أيلول من عام 1982. يمكن بسهولة استحضار الأهمية التاريخية لقرار إنشاء الجبهة، وللدور الكبير والحاسم الذي أدّته في بناء ثقافة المقاومة في مواجهة العدوّ الصهيوني وفي هزيمته وفرض الانسحاب عليه من العاصمة بيروت، ومن معظم المناطق اللبنانية التي احتلّها عام 1982.
يمكن أيضاً استعادة بعض الوقائع ذات الأهمية الاستثنائية:
أولاها، أنه ما بين عام 1982 وعام 1986 (الانسحاب الثالث بعد الأوّل من بيروت والثاني من معظم المدن المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي) كانت خسائر إسرائيل هي الأكبر. وهي في الواقع تكاد تزيد ثلاث مرات على خسائرها في المرحلة الممتدة ما بين عامي 1986 و2000.
وثانيتها، أنّ القوى التي قاومت العدو كانت متنوّعة وعديدة: لبنانية وفلسطينية أيضاً. لكنّ القوة الأساسية في تلك المرحلة كانت تلك المرتبطة، بقرارها وبتنظيمها، بقيادة الحزب الشيوعي اللبناني.
وثالثتها، أنّ صحافة العدو نفسه قد اعترفت بفداحة خسارته في لبنان، فكتبت صحيفة «هآرتس» في 5/3/1985: «لا مجال للغفران لما فعله المبادرون بغزو لبنان. فهناك عرف جيشنا بنفسه كيف تصبح القوة العسكرية عاجزة. هذا ما حدث تماماً للأميركيين في فيتنام»... أما صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية فكتبت في 29/3/1985: «لأوّل مرّة منذ عام 1948 يشعر العرب أنّهم مقاتلون ممتازون كعدوّهم، إن لم يكونوا أفضل منه بكثير. فالحروب العربية ـــــ الإسرائيلية انتهت قبل أن يتوافر للعالم العربي الوقت الكافي لمعرفة ماذا حدث. بدت إسرائيل قوة لا تُقهر. لكنّ المفهوم انقلب رأساً على عقب نتيجة الضربات التي وجّهتها جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. فبالنسبة إلى العرب أصبحت إسرائيل فجأة قوة قابلة للتحطيم».
ورابعتها، أنّ الأحداث اللبنانية والإقليمية والدولية قد تلاحقت على نحو لافت ودراماتيكي، فغيّرت وبدّلت في العلاقات والتوازنات. وترك ذلك أثراً عميقاً على واقع المقاومة والمساهمين فيها. رافقت ذلك محاولة طمس المساهمات الباهرة لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، فبدت المقاومة في طور التسعينيات، كأنّها كانت مقاومة طرف واحد وفي مرحلة واحدة، فيما كان عقد الثمانينيات هو الأساسي في مراحل المقاومة بالفعل.
بيد أنّ الاحتجاج على حصرية المقاومة في فعلها وفي تاريخها لا يختصر مسألة مقاربة موضوع نشوء «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» في 16 أيلول من عام 1982 ودورها ومساهماتها. ذلك أنّه من بين الأسئلة المطروحة أيضاً: لماذا لم يستمرّ دور الشيوعيين و«الوطنيين» في المقاومة، كما كان في النصف الأوّل من عقد الثمانينيات؟ والسؤال الأهم من هذا، لماذا لم يتواصل نهج المقاومة وثقافة المقاومة فعل مبادرة ونشاط يوجّه عمل الحزب الشيوعي وشركائه في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية؟
في الجواب عن السؤال الأوّل، يجب التفتيش عن أسباب موضوعية وأخرى ذاتية: تصاعد الانقسام المذهبي في لبنان. زيادة التدخل الخارجي. القرار السوري بحصرية المقاومة... وذاتياً، صعوبات متنوّعة لدى الحزب الشيوعي اللبناني، كان أبعدها أثراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
أما الجواب عن السؤال الثاني، فهو الأكثر مدعاة للانتباه وللاهتمام وللمتابعة، لأنّه سؤال الحاضر والمستقبل أكثر ممّا هو سؤال الماضي وملابساته وأحداثه. فالفارق ما بين المقاومة الوطنية والمقاومة الإسلامية ليس ذلك الذي يمكن أن تجيب عنه المنافسة في الفعالية وعدد العمليات والشهداء... فلقد أنجزت «المقاومة الإسلامية» الكثير في مجرى المقاومة والتحرير والانتصار. وهي قد أدهشت العالم وأذهلت الأميركيين والصهاينة

لا تستطيع المقاومة أن تكتفي بشعار التحرير في معزل عن أزمات الوضع الداخلي
وحلفاءهم حين صمدت في تموز عام 2006، ملحقة خسائر مادية ومعنوية ضخمة وفادحة بالعدو الصهيوني وخسائر سياسية كبيرة بالأميركيين وبالمراهنين على العدوان من «عرب الاعتدال». الفارق هو في البرنامج أو في الأهداف التي يحتاج إليها الوضع اللبناني من وراء المقاومة، وتحتاج إليها المقاومة لتصبح أكثر قدرة على الفعل الإيجابي في الوضع اللبناني الداخلي أيضاً.
والمعادلة هنا، أنّ المقاومة لا تستطيع أن تكتفي بشعار التحرير معزولاً عن التفاعل مع أزمات الوضع الداخلي اللبناني، وخصوصاً منها أزمة الانقسام الأهلي والسياسي المتفاقم بالتدخل الخارجي (الصراع الإقليمي) وبالصراع المذهبي الذي يُستخدم وسيلة لتفتيت المنطقة وتضييع قضاياها (خصوصاً قضية فلسطين) وتسهيل الهيمنة عليها.
إنّ ربط شعار التحرير بالتغيير الذي رافق نشاط الجبهة منذ بيانها الأوّل، قد كان تعبيراً عن الحاجة إلى معالجة خطريْن عبر مشروع مواجهة واحد: خطر الاحتلال الصهيوني، وخطر الحرب الأهلية والانقسام الطائفي والمذهبي الذي يمعن في إضعاف لبنان وتهديد وحدة شعبه وتسهيل الوصاية عليه واستدراجها: على حساب سيادته وعافيته.
ولقد حصل مراراً أن أُشير إلى الثغرة التكوينية التي ينطوي عليها مشروع المقاومة العائد للأحزاب والقوى الإسلامية (في لبنان وسواه). وهذه الثغرة تُستخدم على أوسع نطاق الآن من أجل إجهاض مشروع المقاومة ومن أجل تهديد وحدة لبنان وسيادته الوطنية في الوقت عينه. وهذا الأمر مطروح بقوة الآن في لبنان، وعلى المقاومة الإسلامية تحديداً، وذلك من أجل إضفاء طابع وطني وتحرّري على مشروع المقاومة في بعديْه المحلّي والإقليمي على حدّ سواء.
أما ورثة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» فلا يستطيعون أن يستمرّوا في تكرار الاحتفال بأمجاد تلك الجبهة في قرار إنشائها وفي إنجازاتها. حتى هذا النوع من الاحتفال، لم يعد يجذب الكثيرين، وخصوصاً إذا أصرّ البعض على الدخول إليه من موقع المنافسة. فهذه المنافسة غير متكافئة. وهي منافسة بين الماضي والحاضر في أقلّ التعابير قسوة!
يصبح للاحتفال «نهكة» إذا انصبّ على محاولة استعادة قرار المقاومة في حجم ما انطوى عليه آنذاك من المبادرة والريادة وتوفير الردّ التاريخي على حاجة وطنية مصيرية. والكلام الذي يتكرّر في المناسبات والبيانات عن مواجهة مشروع الهيمنة الأميركي ومقاومة مخططات العدوان الصهيونية، وكذلك مواجهة الاستبداد والديكتاتورية والظلم، هذا الكلام سيصبح لغة خشبية صافية إذا لم يتبلور في مشروع جديد بحجم ما كان عليه مشروع إنشاء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
هل نملك هامات وطاقات بمستوى هذا القرار التاريخي؟ إنّه دور يبحث عن قوى تنهض به، ليصبح الاحتفال بذكرى تأسيس المقاومة تأسيساً جديداً لمشروعها الشامل، لا مجرّد بكاء على الأطلال.
* كاتب وسياسي لبناني