بين الحفاظ على الآثار في الجزء القديم من مخيم نهر البارد وطمرها، تُعلّق حياة 35 ألف لاجئ فلسطيني كانوا يظنّون في فترة سابقة، قبل الحرب تحديداً، أنّها حياة مستمرّة.. على بؤسها. ربما، يجدر بهؤلاء المتروكين لحالهم الانتظار بعد، ريثما يتخذ مجلس شورى الدولة قراره النهائي المستند إلى مطالعات الدولة اللبنانية والتيار الوطني الحر ووزارة المال المكلفة بتمويل تكاليف طمر الآثار
راجانا حمية
كان من المفترض أن يُقفل مجلس شورى الدولة، اليوم، أبوابه أمام المطالعات القانونية المتعلقة بالطعن بقرار إيقاف طمر الآثار في البارد القديم. فقد أجّل محامي النائب ميشال عون، وليد داغر، تقديم مطالعة يحدد فيها صفة النائب عون كمستدعٍ إلى الاثنين المقبل. ويعود سبب التأجيل إلى رغبته في ضم رد التيار على مطالعتين تقدمت بهما وزارة المال في 18 آب الماضي والدولة اللبنانية في 21 منه، وتبلّغ بهما داغر في العاشر من الجاري.
وحسب المحامي داغر، تطالب هاتان المطالعتان مجلس شورى الدولة بالرجوع عن قرار إيقاف الطمر، استناداً إلى «المعطيات التي تفيد بأن طمر الآثار تم وفقاً للمعايير الدولية». وأكثر من ذلك، تستند الوزارتان في مطالعتيهما إلى «اعتبار صفة عون ومصلحته لا تتطابقان مع شروط المادة 77 من نظام مجلس الشورى». وهي المادة التي تنص على أنه «يفترض لوقف تنفيذ القرار المطعون فيه أن تكون المراجعة مرتكزة على أسباب جدية ومهمة وأن يكون الضرر المتذرَّع به ضرراً بليغاً».
طعن داغر بالمطالعتين، سلفاً، حتى قبل التقديم إلى مجلس الشورى، لأنه «لو لم يكن لعون صفة مباشرة لما كان مجلس شورى الدولة قد أوقف قرار الحكومة، كما إن الضرر لحق به كمواطن ذلك أن الآثار ليست ملكاً عاماً، بل هي ملك إنساني». لا يكتفي داغر بهذه الحجة، بل يستند إلى الاجتهاد القانوني الصادر عام 2000، والذي «لا يشترط لتوفر المصلحة أن يكون المدعي صاحب حق مباشرإذاً، من المفترض أن يتقدم داغر صباح الاثنين المقبل بمطالعتين: أولى تتعلق بتحديد صفة عون كمستدعٍ، والتي حددها داغر بصفة مواطن، وثانية يرد بها قانونياً على مطالعتي المال والدولة. بعد ذلك كله، يقوم مجلس الشورى بمطابقة الصفة والمصلحة قبل إصدار القرار المتوقع في 13 تشرين الأول المقبل.. و«ربما قبل هذا التاريخ، إذا لم تتطابق الصفة والمصلحة مع شروط المادة 77، بحيث يصار إلى إبطال القرار فوراً»، حسبما يرجّح رئيس مجلس الشورى القاضي شكري صادر.
لكن، إذا فاز عون بصفته والمصلحة، ينتقل أعضاء مجلس الشورى إلى «الأساس»، الذي يتعلق بدراسة مطالعتي عون المتضمنة مبررات الحفاظ على آثار البارد، والحكومة اللبنانية التي تشرح فيها موجبات الإعمار. ويحصر رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني خليل مكاوي هذه الموجبات بثلاثة «تعهّد الدولة بإعادة المخيم كما كان والتزامات الحكومة تجاه المجتمع الدولي والدول المانحة، إضافة إلى الحفاظ على الأمن القومي».
إما استكمال طمر الآثار بحسب المعايير الدولية وإما إيقاف الإعمار «واستملاك الأراضي
إذاً، يتعلق مصير المخيم القديم بالمطالعتين المذكورتين، فإما استكمال طمر الآثار بحسب المعايير الدولية، كما يرجح مكاوي، وإما إيقاف الإعمار «واستملاك الأراضي القائم عليها المخيم الجديد وبعض ما حواليه»، كما جاء في بيان لجنة الدراسات في التيار الوطني الحر الأسبوع الماضي. غير أن ما تعوّل عليه لجنة الدراسات يواجه بعض الرفض من جهتين: الأولى فلسطينية، إذ يخاف هؤلاء من ضياع حقوقهم، وخصوصاً أن غالبية البيوت مسجّلة باسمهم، وأن ببعض تحايل (قبل صدور قانون التملك اللبناني عام 2001)، والثانية غالبية الأقطاب السياسية التي ترى في استملاك أراضٍ جديدة بداية مشروع التوطين.
ما بين المطالعتين، يضيع سكان المخيم القديم. يتساءل هؤلاء عن سبب إثارة هذه القضية الآن بالذات، تزامناً مع بدء إعادة الإعمار. يخاف الأهالي من أن تتكرر تجربة المخيمات المسحولة هنا في البارد. خوفهم هذا يدفعهم إلى «الهلوسة» في بعض الأحيان، إذ يذهب البعض إلى القول إنه «لا وجود للآثار بدليل أن الأعمدة هي قنوات صرف صحي مركبينا جدودنا اعتبروها رومانية، وبعض الفخارات من إيام أبوي». يستند الرجل في تكهناته إلى أن الحفر التي قام بها المهندسون من مديرية الآثار لم تتعدّ الثمانين سنتمتراً، «فكيف ستكون المدينة على هذا العمق؟».
يستغرب آخرون، ومنهم لطفي محمد الحاج، عضو الهيئة الأهلية لإعادة إعمار البارد، سبب التفات الدولة اللبنانية إلى هذه الآثارات رغم أنها هي التي أتت باللاجئين إلى تلة البارد رغم معرفتها بوجود الآثارات منذ العشرينيات من القرن الماضي. ويستغرب الحاج أيضاً سبب الاهتمام «الذي لا مثيل له»، على الرغم من «أن الآثار المحيطة بنا مهملة»، ويعطي مثالاً على قوله: «مثلاً، قلعة حكمون على جنب المخيم عاملينا مزرعة بقر وتلة عرقة وغيرها». لا يحتاج الرجل إلى أكثر من رؤية منزله مجدداً، ويطالب مجلس الشورى بالعودة عن قرار الإيقاف، مبرراً مطالبته بالقول: «احنا هون مش سوليدير، هون ناس ساكنة ما عادت تحمل تهجير». أكثر من ذلك، يضيف أبو خالد فريجي، أحد سكان القديم: «إحنا رمينا البارود لنساعد الجيش، اليوم ما عدنا قادرين ما نحمل البارودة».
مقابل هذه التعليقات للأهالي، يضع بعض الأطراف القضية في خانة التجاذبات السياسية. هذا ما يقوله المسؤول عن ملف إعادة إعمار البارد مروان عبد العال. ولئن كان لا حول ولا قوة من إدخال الفلسطيني بهذا التجاذب، يسأل عبد العال: «لماذا لم تُرسل فرق للتنقيب عن الآثار منذ تسعين عاماً؟ وليش الرسائل ما بتوصل إلا من صندوق بريدنايؤمن عبد العال بقداسة الآثار. وهي، من وجهة نظره تضاهي قداسة هوية الفلسطيني. لكن، السؤال الكبير الذي لا بد منه هنا هو «أنه إحنا مش آثار؟ ما بنمثل خصوصية؟ مش ولاد نكبة عمرها 61 عاماً وإلنا هويتنا كما الآثار؟ أكثر من ذلك، يسأل عضو الجبهة الشعبية في البارد سمير اللوباني: «ما هو الثمن السياسي الذي يجب أن يدفعه الفلسطيني من أجل إعادة البارد؟
لكن، كل هذا لن يأتي بنتيجة. فالنتيجة الوحيدة في مجلس شورى الدولة، وبانتظار صدور القرار، يعمل الفلسطينيون على رفع سقف الاحتجاجات الجماهيرية، وخصوصاً أنه لا يحق لهم مثل «أهل الفقيد» تقديم مطالعة قانونية، كونهم جهة غير معترف بها في القانون اللبناني. يضاف إلى ذلك أن الأونروا أيضاً لا تستطيع تقديم مطالعة قانونية لمجلس شورى الدولة، لذلك تعمل على إعداد مطالعة تشرح فيها موجبات الإعمار للحكومة اللبنانية فقط.
بالعودة إلى سير عملية الإعمار في البارد، كانت شركة «الجهاد» المتعهدة من قبل الأونروا قد طمرت في الرزمة الأولى حيث وجدت الآثار موقعين من أصل 5 مواقع قبل أن تثار القضية. وتلفت الناطقة الرسمية باسم الأونروا هدى الترك إلى «أننا انتهينا من تنظيف 95% من الركام، باستثناء جزء من الرزمة 2 وآخر من الرزمة 4». وأكدت أن الأونروا لا يمكنها الإعمار إلا بالتسلسل، أي من الرزمة 1، «والعملية متوقفة الآن بانتظار قرار مجلس شورى الدولة».


حكاية الآثار في البارد

في 5 شباط الماضي، عثر العاملون في شركة «الجهاد»، المكلفة من قبل «الأونروا» برفع أنقاض مخيم نهر البارد، على مجموعة من أعمدة الغرانيت في الرزمة الأولى من الجزء القديم، فعمدوا إلى إعلام قيادة الجيش المكلّفة بمراقبة عملية رفع الأنقاض. وقامت الأخيرة، في اليوم نفسه، بإبلاغ المديرية العامة للآثار بوجود الأعمدة.
بعد أيام، أرسلت مديرية الآثار مهندسيها إلى المكان للكشف على الموجودات، وحرّرت كتاباً بتاريخ 11 آذار الماضي تحت الرقم 902، طالبت فيه المعنيين بإيقاف العمل في الرزمة المذكورة. وفي 14 آذار، وجهت المديرية كتاباً رسمياً إلى وزير الثقافة، حمل الرقم 971 تضمّن اقتراحات المديرية للموقع الميداني، داعية صراحة إلى وقف الأعمال تحت إشرافها من أجل حماية الموارد الأثرية.
بعد عشرة أيام، وجهت المديرية كتاباً مشابهاً إلى مجلس الوزراء، حمل الرقم 1094، سُجّل تحت الرقم 1018 بتاريخ 25 من الشهر عينه.
أربعة كتب إذاً سبقت إعلان المكتشفات في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 30 نيسان الماضي، التي اتخذت فيها الحكومة قرارها القاضي «بطمر الآثار وفقاً للمعايير الدولية»، هذه الجلسة التي مرّرت المشروع، من دون الوقوف على المخالفات التي قام عليها. ويشرح محامون: «من الناحية القانونية الإدارية، القرار لا يحترم اختصاص السلطات الإدارية. ففي الصفحة 133 من القانون الإداري العام، يعدّ قرار مجلس الوزراء اعتداء سلطة عليا على اختصاص سلطة إدارية ضمنها، بعدما تبيّن أن القرار المتخذ لم يكن مرفقاً بأي تقرير علمي من المديرية العامة للآثار تحدد بموجبه إمكان طمر الآثار وجدواها العلمية». لا تقف المخالفات عند هذا الحد، فقانون الآثار لا يحوي كلمة أو مبدأ «طمر»، كما أن القرار مخالف للمواد 2 و14 و18 من قانون الآثار الذي يحرّم المس بالآثار ويعدّه جرماً جزائياً.
ر.ح



حكم مجلس شورى الدولة

ثلاثة أيام تفصل أعضاء مجلس شورى الدولة عن تقديم آخر مطالعة قانونية للتيار الوطني الحر. بعد انتهاء فترة الانتظار، يبدأ دور مجلس شورى الدولة دراسة صفة النائب ميشال عون كمستدعٍ، وهو صاحب الطعن بقرار مجلس الوزراء القاضي بطمر الآثار. يقول رئيس المجلس الدستوري القاضي شكري صادر إن الخطوة الأولى في عمل المجلس تفترض تأكيد صفة المستدعي ومصلحته، إذ يجب أن تكونا مباشرتين ومتوافرتين، أي أن يكون الضرر مباشراً وشخصياً. وينبّه القاضي صادر إلى أنه إذا كانتا غير متوافرتين استناداً إلى شروط المجلس تبطل الدعوى فوراً.
في حال الإثبات؟ يشير القاضي صادر إلى أن المجلس ينتقل إلى “الأساس، ويصبح السؤال هنا: هل التدبير الذي اتّخذته الحكومة اللبنانية قانوني أم غير قانوني؟”. عندئذٍ، يدرس قرار الحكومة، وما إذا كان مسنداً إلى القانون أو مشوباً بالعيب. وإذا كان مشوباً بالعيب، يبطل القرار “لأن هذه السلطة تكون قد تجاوزت حدّها”.
لن يقف عمل الدستوري عند هذا الحد، إذ يفترض به مراجعة المطالعة القانونية التي كان قد تقدّم بها النائب ميشال عون، والتي أوقف على أساسها قرار الحكومة. ويفترض به أيضاً دراسة المطالعة الجديدة التي تقدّمت بها الحكومة في 21 آب الماضي، التي تشرح فيها موجبات إعادة الإعمار وتربطها “بالأمن القومي والحفاظ على مصلحة الدولة العليا وحماية اللاجئين على أراضيها”. وعن هاتين النقطتين، يؤكد القاضي صادر أن المجلس يدرس وجهتَي نظر الفريقين: العماد ودولته. ومن ثم يُصدر القرار: إبطال أحدهما.
ر.ح