عمر نشّابةلا شك في أن شعار العدالة، كما شعارا السلام وحبّ الحياة، شديد الجاذبية إلى حدّ هوَس بعض اللبنانيين به. يعتبر هؤلاء أن مجرّد التعبير عن ملاحظات بشأن آلية تحقيق العدالة خيانة ودفاع عن الجناة. هذا بحدّ ذاته استخفاف بعقول الناس. صحيح أن نسبة التشكيك في مصداقية المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ارتفعت أخيراً. ويدّعي البعض أن تزامن ذلك مع اقتراب موعد إصدار مضبطة الاتهام الدولية يشير إلى أن عملية التشكيك ما هي إلا مناورة سياسية تمهّد لاستمرار الإفلات من العقاب. لذا يُفترض تجنّب البحث المنهجي في مهنية إجراءات التحقيق الدولي وقانونيته وغضّ الطرف عن احتمال مبادرة المحكمة الدولية إلى اتخاذ بعض الإجراءات التي لا تتناسب مع معايير العدالة. رغم أن الحرص على تحقيق العدالة يتطلّب عادة تقبل النقد البنّاء لآليات تحقيق العدالة الدولية لا الرضوخ لها بالكامل والسير نحو المحاكم الدولية معصوبي العينين. لكنّ ذلك مجرّد تعبير عاطفي يرفعه راديكاليون خشبيون أو ساذجون بسيطون في فهمهم لآليات العدالة الدولية. حسناً، فلنبدأ من هنا: كيف تعمل آليات العدالة الدولية؟
إن العدالة الدولية تتميّز بالانتقائية، إذ لا وجود لأي محكمة دولية تعتبر الجرائم التي ارتكبت بحقّ مئات آلاف المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين من اختصاصها، كما لا محكمة دولية في الجرائم المتمادية التي يسقط ضحيتها مئات آلاف العراقيين والأفغان. وللبنان لا محكمة دولية تحاسب المسؤولين عن قتل أكثر من مئة ألف إنسان أو خطفهم أو تعذيبهم أو تهجيرهم. لماذا إذاً أنشئت محكمة دولية لجريمة واحدة وقعت في 14 شباط 2005 بينما سبقتها جرائم بالخطورة نفسها وتبعتها عشرات الجرائم الكبيرة وقع أبرزها خلال العدوان الإسرائيلي في صيف 2006؟
هل العدالة الدولية تعني أن من حقّ شهيد أن يتقدّم على باقي الشهداء؟ هل العدالة الدولية تعني أن قيمة أي إنسان تتقدّم على قيمة أطفال دفنوا أحياء في بيوتهم؟ هل العدالة تخضع للبروتوكول فيقرّب ذوو الرئيس الشهيد مقاعدهم نحو قوس المحكمة كما يفعل الرؤساء في الكنيسة؟ أم أن القانون يقدّم حقوق الـVIP على حقوق الآخرين؟ وهل هناك «خطّ عسكري» إلى العدالة للرئيس الضحية مقابل خط مدني للضحايا «العاديين»؟
أنشأ مجلس الأمن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بإصداره القرار 1757 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك بسبب عدم توافر إجماع لبناني على توقيع الاتفاقية الدولية بين لبنان والأمم المتحدة. غير أن البيان الوزاري للحكومة السابقة كان قد أيد إنشاء المحكمة وتعهد التعاون والمساعدة. وانطلق عمل المحكمة مطلع آذار الماضي. وبعد ستة أشهر على ذلك تراكمت أخطاء العاملين فيها إلى حدّ أثار شكوكاً في مضمون مضبطة الاتهام الآتية والجدوى منها. وتكوّنت الشكوك بعد تدقيق في مدى تناسب عمل المحكمة الدولية مع معايير العدالة. فلنستعرض معاً ست نقاط تفسّر مصادرها:
1ــــ إهمال التحقيق في شهود الزور: منذ انطلاق التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري قدّم عدد من الأشخاص معلومات تبين لاحقاً أنها غير صحيحة. إن أبسط قواعد التحقيق تشير إلى ضرورة أن يشمل البحث عن دوافع تقديم معلومات مغلوطة عن الجريمة ومرتكبيها. غير أنه رغم اعتماد المحققين الدوليين سابقاً على بعض الشهادات الخاطئة للتوصية بسجن أشخاص لسنوات، لم يبادر المدعي العام إلى طلب التحقيق مع كلّ من أدلى بمعلومات غير دقيقة.
2ــــ تجاوز الشفافية في تحديد مصادر المعلومات: تضمنت قواعد الإجراءات والأدلة التي اعتمدها قضاة المحكمة فقرات تشير إلى جواز تحفّظ بعض الدول عن مصادر بعض المعلومات بحجّة الحفاظ على «أمن الدولة».
3ــــ تعيين موظفي الضحية في المحكمة: عيّنت المحكمة الدولية أشخاصاً يعملون لمصلحة مؤسسات تعود ملكيتها إلى الرئيس الشهيد أو ينتمون إلى خطّه السياسي، ما قد يعرّض عملهم إلى «تقاطع في المصالح» (conflict of interest) بغضّ النظر عن كفاءتهم وحسن نواياهم.
4ــــ غموض الاستقالات: تتحفظ المحكمة الدولية على الأسباب الحقيقية الكاملة لاستقالة مقرّر المحكمة روبن فنسنت، وتزامن ذلك مع استقالة القاضي موريسون وانتقاله إلى محكمة دولية أخرى.
5ــــ تغييب المساءلة والمحاسبة: لم تبادر الأمم المتحدة إلى مساءلة ومحاسبة بعض موظفيها الذين سجنوا أشخاصاً تعسّفياً ونشروا إفادات شهود بدون وجود برنامج لحماية الشهود. ويذكر هنا أن أحد الشهود تعرّض للاغتيال بعد نشر لجنة التحقيق الدولية اسمه وجزءاً من إفادته في تقرير علني.
6ــــ تعديل في السياسة الإعلامية لمكتب المدعي العام الدولي دنيال بلمار: خلال مدة ثلاثة أيام اقتصرت مقابلات بلمار الأربع على وسائل إعلامية من التوجه السياسي نفسه. تحدث عبر شاشات التلفزيون بمزايا المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وبعمله الممتاز ومهنيته اللامعة. لكن رغم ذلك، اضطّر مكتبه إلى إصدار بيان تصحيح لبعض ما نقل عنه من مبالغات.