إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

غريب أمر الناطقين بلغة الضاد، أو بعضهم. عراة في عاصفة هوجاء ويدّعون الدفء. رومانسيون في زمن أفلام الرعب والنرجسية المطلقة. سرطان التجزئة ينخر مجتمعاتهم، ويبشّرون بالوحدة. يعانون انفصاماًً متعدّد الأبعاد ويحلمون بالعروبة. ميكروبات تعدّد الانتماءات تلوّث دماءهم، عوارضها صراعات عرقية وثقافية وطائفية ومذهبية. نزاع هويات في منطقة تكرّس في اللاوعي أنها تؤلّف أمة واحدة.
مقدّمات تقسيم في السودان. ملامح تجزئة في العراق. بوادر انفجار في اليمن. “اقتتال” طائفي ـــــ مذهبي في لبنان. نزاع صحراوي انفصالي في المغرب. حركة أمازيغية غير مندمجة في الجزائر. حصار للأقباط وتهميش لأهل النوبة في مصر. حالة كردية تستعر تحت الرماد في سوريا. نزاع شوفيني بين “أصليين” ولاجئين في الأردن. انقسام مذهبي مستتر في الكويت والبحرين يلامس السعودية... فضلاً عن الصراعات ما بين الدول والأنظمة وانقساماتها الطبقية والسياسية، وهناك من لا يزال يأمل “الوحدة العربية”.
هي حكاية حلم بدأ في كنف العثمانيين يوم قرّروا تتريك الولايات العربية، في أواخر القرن التاسع عشر. كانت النظريات القومية الأوروبية المنشأ قد انتقلت إلى مثقفي الشرق الحزين، حيث قامت مذاهب متعددة، بعضها جغرافي الطابع، وبعضها الآخر متعدد العناصر، كاللغة والدين والتاريخ المشترك وما إلى ذلك من عوامل عُدّت توحيدية.
وحّد الأتراك العرب، بطموحاتهم، وفرّقتهم سايكس ـــــ بيكو. قصة تقليدية من قصص الاستعمار، الذي أقام أنظمة، فرّقتها سياسة الأحلاف، تحمل بحكم تكوينها مضادات حيوية تحفظ بقاءها. قدرة على حماية الذات من النزعات الانفصالية والاتحادية. وقتها جرى الاكتفاء بإقامة “جامعة” لبني يعرُب، فيما دخلت منطقة ما بين الماءين مرحلة مخاض ميزتها أحداث ثلاثة أعطت دفعاً للنزعات الوحدوية: اغتصاب فلسطين، واندلاع حركات التحرر، وظهور جمال عبد الناصر، الذي أعطى الفكرة وهجاً ودعما مالياً وعسكرياً. خطوات ترافقت مع انضمام المنطقة إلى ساحات الحرب الباردة مع ما عناه ذلك من دعم للحركات القومية لضرب الأحزاب الشيوعية، قبل أن ينتقل هذا الدعم إلى الحركات الإسلامية لضرب الأحزاب القومية.
ذهب عبد الناصر وأخذ معه الأمل. دمّرت النكسات المتتالية شخصية “الأمة” والفرد العربيين كما صوّرهما دعاة الوحدة. قضت على كل ثقة بالنفس والجماعة. حال فاقمتها الديكتاتوريات التي عمّت العالم العربي، مع ما عناه ذلك من استلاب للعقل والروح. بدأت حلقات الانتماء تضيق (الكيان فالمنطقة فالمدينة، القبيلة فالعائلة، الطائفة فالمذهب...)، ومعها تتعدّد الهويات وتتصارع في ما بينها (عرب وكرد وأمازيغ وأفارقة وصحراويون وخليجيون وفينيقيون ومسلمون ومسيحيّون وأقباط وسُنّة وشيعة ودروز وزيديّون ـــــ حوثيّون وشماليّون وجنوبيّون...). هزائم أدّت إلى الهروب إلى الوراء والبحث عن أمجاد غابرة عند “السلف الصالح”، أو إلى الهروب إلى الأمام والارتماء في أحضان الغرب “الأكثر حضارةً وتقدماً”. نزعة تغريب استوردت الشكل وغيّبت الجوهر، مع ما أدّى إليه ذلك من إسقاطات نظرية لم تُسمن ولم تغنِ من جوع.
الضربة التي قصمت ظهر هذه “الأمة” لا شك في أنها كانت خروج مصر، “الشقيقة الكبرى” ورائدة القومية العربية، من دائرة الصراع وتوقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل، التي كان العداء لها قد أصبح في ذلك الوقت العامل الوحدوي الوحيد، بعدما اختلف العرب على كل شيء تقريباً. يومها وُضعت اللبنة الأولى للانقسام العمودي، الذي نحصد نتائجه اليوم. خرجت مصر ودخلت إيران، واستعرت الخلافات التي وجدت متنفّساً لها على الأرض اللبنانية في تلك الحرب المشؤومة.
بقي الوضع على هذه الحال إلى أن وضعت الحرب الباردة أوزارها مع انهيار الاتحاد السوفياتي. وقتها، عاد المستعمر (الجديد) بجنوده إلى الخليج لحراسة آبار النفط، وكانت الضربة الثانية مع اتفاقات أوسلو، التي نقلت الانقسام السالف الذكر إلى صفوف أصحاب القضية الأم، وكرّست امتداداته العربية.
أما الضربة القاضية فكانت مع غزو العراق، وما كشف من اصطفافات (خلف العام سام ضد “الشقيق العربي”) وما نجم عنه من تداعيات، في مقدمتها زوال الحاجز الذي كان يقف في وجه تمدّد النفوذ الإيراني إلى العالم العربي، وتكريس تركيا لخيارها بالاتجاه شرقاً (رفضت أن تكون ممراً للغزو خلافاً للكويت)، وبالتالي دخول هاتين القوتين الإقليميتين لاعبين أساسيّين في المنطقة. ومع مرور الأيام تجلى الانقسام بأوضح صوره في “معسكرين”، يتكوّن كل منهما من نواة وأطراف وعناصر فلكية:
المعسكر الأول “معتدل”، باتت فلسطين عبئاً عليه. لا يرى غضاضة في قبول إسرائيل كما هي. يستعجل التسوية، التي يتمسك بالمفاوضات أداةً وحيدة لبلوغها. كثير المرونة. يحيا في كنف العم سام. يحتمي به. يحفظ نظامه بواسطته و(أو) يعتاش على فتاته. يخشى “الهلال الشيعي”. الله بالنسبة إليه مع أهل السُّنّة والجماعة.
أما المعسكر الثاني فـ“ممانع”. فلسطين بالنسبة إليه قضية وجودية. فعل عقيدة. المقاومة فعل إيمان... ومصالح. براغماتي في الممارسة، أيديولوجي في الاستراتيجيا. إسرائيل غير موجودة في قاموسه، وإن فعلت فبشروطه. أميركا شيطان أكبر، أو بالحد الأدنى رفيق لدود مجبر على التعامل معه. الله بالنسبة إليه مع آل البيت. يسعى إلى تجنب “الفتنة”... وإلى تحالف أقليات.
إنها الفسيفساء نفسها، تعيد تجميع حالها في هيكل جديد، ملامحه لا تزال في طور التكوّن، ويتمحور حول الثالوث الأعظم: الله وأميركا وإسرائيل.