نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

بدءاً من الجو العام: ما دخل فلسطين والقدس، إذا كانت الأطراف السياسية الإيرانية، وفي مقدمتها الفريق الممسك بالسلطة، بصدد تنظيم الحرب الأهلية في البلد؟ وفي رواية أخرى، بصدد تمكين نظام أحادي قمعي من السلطة بديلاً من تنوع التيارات ـــــ وإن اقتصر سريعاً على الإسلامية منها ـــــ واحترام توازناتها، الذي ميّز الثورة الإسلامية في إيران، بل مكّنها من الانتصار؟ المفاضلة، وتقليب الاحتمالات، وترجيح بعضها، ليست موضوعنا الآن. في «يوم القدس» الأخير، يوم الجمعة الفائت، راح مدنيون مؤيدون للسيد أحمدي نجاد، ومجموعات من «الباسيج» مزودة بسلاسل معدنية غليظة، يضربون المتظاهرين من «الخصوم». السيد خاتمي نفسه لم ينجُ من الضرب. وهو كان رئيس جمهورية البلد. مير حسين موسوي ضُرب كذلك، وهو كان مرشحاً فحسب، لذا فمنزلته أدنى، ثم هو ليس برجل دين، وعمامته ليست سوداء! هل ذهب خيال الخميني، حين قرر الاحتفال رمزياً بالقدس، كل آخر يوم جمعة من شهر رمضان، إلى تصور مثل هذا المشهد؟
ثانياً: ما علاقة القدس بالشعار الديماغوجي، «إيران أولاً»، بصيغته الخاصة التي رددها المتظاهرون من المعارضين: «لا غزة ولا لبنان، نستشهد من أجل إيران». من طالبهم بغير ذلك أصلاً، هم وسواهم! موضة شعارات مصر أو الأردن أو لبنان... »أولاً»، لم تتمكن يوماً من إخفاء أن الخلاف يدور تحديداً على مضمون هذه الـ«أولاً» في المكان المحدد الذي تُرفع فيه، لا على رومانسية غيرية كائنة ما كانت. حتى في حالة الحرب الأهلية الإسبانية، حين تطوع في «الكتائب الأممية» آلاف المناضلين للقتال إلى جانب الجمهوريين ضد فرنكو، فإنما فعلوا ذلك دفاعاً عن أنفسهم، عن قيم يريدون حمايتها أو إحلالها، وأخرى يرفضونها ويخشون هيمنتها ويريدون هزيمتها. كانوا من مناهج فكرية متعددة، وليسوا يساريين فحسب. لكان وجه أوروبا، وتاريخها اللاحق كله تغيرا لو لم يُهزم الجمهوريون الإسبان عام 1939. وكذلك هي حال ودوافع المتضامنين الدوليين مع فلسطين، من أوروبيين وأميركيين ويابانيين، وكل جنسيات الأرض، وهم يُعَدّون بعشرات الآلاف ممن تكلفوا مشقة الحضور إليها وما زالوا، بل بعضهم استشهد أمام جرافات المحتل ودباباته: ترْك البربربة تكتسب قبولاً وسطوة يرتدّ عليهم في بلدانهم، وبخصوص قضاياهم الذاتية. لمسوا ذلك تجريبياً. صون «القدرة على الاستهجان» أساس مجابهة النظام المهيمن، بينما تصبح الوضعيات المحددة تفاصيل. ومن لا يأبه بما يجري في فلسطين يؤيد بالتأكيد سيادة نظام بائس في بلاده. جماعة الـ«أولاً» هؤلاء، وحيثما ظهر الشعار، يدافعون عن الليبرالية الوحشية ـــــ اقتصادياً واجتماعياً ـــــ في بلدانهم، ويختبئون خلف ما يبدو وطنية وواقعية، لشرعنة واقع بشع، استغلالي لأكثرية الناس الساحقة، ومفتتن بالقيم الفردانية والاستهلاكية الكارثية، ونأسف لكل التضامنات التي لا اجتماع إنسانياً من دونها. النقاش يبقى: من أجل أي إيران يبدي أنصار السيد موسوي استعدادهم للاستشهاد؟ نعرف جماعات الـ«أولاً» في سائر المنطقة، فماذا عنهم؟ تلك هي المسألة الرئيسية. ثم بعض التفاصيل التي لا يمكن التغاضي عنها: فكيف هم يطلبون تضامن العالم كله معهم، وهم محقّون، وفي الوقت نفسه وفي الداخل، يندرجون في «أولاً» تلك اللاغية لمنطق مطلبهم التضامني نفسه. وأخيراً، كان يمكن افتراض أنهم إنما يستغلون فرصة سياسية للتظاهر لو لم يرفعوا شعاراً يستهدف غزة بالشتم، وهي هذا القبر المفتوح. نكاية بأحمدي نجاد وإبرازاً للتناقض معه؟ لا ممارسة سياسية يمكنها ادعاء البراءة بينما هي تغوص في وحول الانتهازية.
أما الطرف الثاني في هذه المعادلة المجنونة، فهو السيد نجاد الذي لا يكفّ عن استغلال فلسطين من أجل «إيران أولاً» خاصته. هو أولاً يخرج بانتظام وثبات وتكرار عن النسق القيمي الذي نجحت في إرسائه الحركة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها الحديث المرتبط بنشوء العمل الفدائي، وبإجماع عابر لحركاتها السياسية والفكرية وكل مثقفيها: من أنها لا تقاتل اليهود بوصفهم كذلك، بل لأنهم كيان استعماري. ثم، ما دخل القدس وفلسطين بلعبة إنكار المحرقة التي لا يفوِّت السيد نجاد مناسبة دون ممارستها، فيظهر كمن لا يطيق انزياح الأضواء عنه، وإن بالسوء؟ وما الصلة بين المحرقة وإسرائيل؟ إلا إذا كان السيد نجاد يصدق حقاً الدعاية الصهيونية التأسيسية، من أن إسرائيل قامت رداً على المحرقة، بينما يعرف تلميذ في الإعدادية أن حركة قيام إسرائيل بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر، نصف قرن قبل النازية ومحرقتها اللعينة. ثم كيف يساعد السيد نجاد فلسطين والقدس، فعلياً؟ سؤال لا بد من طرحه على من يصادر بهذا القدر من الإصرار فلسطين لأغراضه الخاصة، هو الآخر، بينما لم يثبت في أي موقعة عداؤه المبدئي لـ«قوى الاستكبار». وقد أتيحت له الفرصة على حدود بلاده، فماذا فعل؟ نظامه كان منذ ما قبل اللحظة الأولى، ولا يزال، مسهّلاً للاحتلال الأميركي للعراق، ومتواطئاً معه، لأغراض متعلّقة بالثأر من بلاد الرافدين، وبالطمع فيها، وبطموحات هيمنة بحتة، مذهبية حين لا تكون إيرانية عامة. يا رجل! دع القدس لهموم أبنائها. يكفيها إسرائيل. فإن لا تساعدها، فكفّ شرّك عنها!