ابنة الجبل عاشقة للمدن بضجيجها وانفتاحها. عرفناها وجهاً من وجوه «تلفزيون لبنان» في سنواته الذهبية ثم صوتاً رافق المستمعين العرب عبر إذاعة «راديو مونتي كارلو». إنّها مرسال الغرام، تشتاق بيروت من منفاها الباريسي، فهل تعود إليها قريباً؟
نوال العلي
يجيء صوت المذيع فايز مقدسي ليعلن وصول شقراء «مونتي كارلو» إلى الاستوديو. تعطي كلمة شقراء انطباعاً غامضاً على الراديو. حاسة السمع تقوم بمهمة البصر... والحديث عن امراة جميلة لا يمكن رؤيتها، أشبه برواية الحكايات عن شخصيات خرافية. أو هكذا كنَّا نعتقد ونحن مراهقون سذَّج، حين كانت غابي تقرأ رسائل المستمعين، ويتدحرج صوتها مثل حبّات مشمش تسقط من سلة عبر الأثير، لتبلغ مناطق صحراوية نائية وبعيدة يصلها البثّ متقطعاً ومشوشاً. تردُّ هي على رسائل المجهولين والمجهولات الذين يبتسمون بقوّة، سواء أكانت أسماؤهم حقيقية أم مستعارة.
كانت السنوات بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات من القرن المنصرم، سنوات «مونتي كارلو» الذهبية التي لمعت بفضل أصوات لبنانية شهيرة من مثل حكمت وهبي (1951 ــــ 1992)، وغابي طبعاً. هي السنوات ذاتها التي أبعدت هؤلاء عن بيروت المخطوفة في الحرب، وقد انتهى حلم إعلاميّيها بالاستمرار فيها، فهاجر معظمهم، ومنهم غابي.
في عام 1986، تركت غابي لطيف بيروت بعد قصة حب لم تعرف نهايةً سعيدة. كان لتلك الأيام سطوة وقسوة بادية في غصّة هذه المرأة وهي تتحدث عنها الآن. آنذاك، تحالفت الظروف مع بشاعة الحرب لتجعل لطيف تفكر في الهجرة والبحث عن مكان بديل، وقريب من ثقافتها وحياتها، فوقع الاختيار على باريس. «فكرت في باريس لأني زرتها من قبل وأعرف لغتها وشوارعها وثقافتها».
بدأت في برامج المنوعات مع رياض شرارة وصارت من الوجوه القريبة من الناس

في باريس، تعرفت إلى العالم العربي، وقدمت برنامج «باريس بغداد، بغداد باريس»
الثقافة الفرنكوفونية كانت دائماً جزءاً أساسياً من حياة عائلة لطيف: التحاقها بالمدرسة الداخلية بلغتها الفرنسية لغةً أساسية، قراءة الصحف والمجلات العربية «النهار» و«الحوادث» في يد الأب، وParis Match وRevue du Liban في يد الأم، إضافةً إلى الاجتماع بصديقات والدتها الفرنسيات. سُمِّيت غابي على اسم إحداهن، بعدما ولدت في منطقة الطبيّة على طريق الشام. بالطبع قبل أن يصير هذا الطريق فاصلاً بين البيروتين. كانت بنت الأشرفية تقضي معظم وقتها لدى آل حتّي، عائلة والدتها في منطقة رأس النبع. وكانت رأس النبع حيّاً مختلطاً يضم أهل بيروت والجبل والفرنسيين العاملين في «الطبيّة» أو «المركز الثقافي الفرنسي». أمّا الأشرفية، فلم تتعرف إليها لطيف إلا بعد اندلاع الحرب، وانقطاعها وذويها عن زيارة رأس النبع أو منطقة الحمرا، حيث كانت تتسكع ورفيقاتها المراهقات في الشارع الذائع الصيت، أو حيث كانت تصحب عائلتها إلى مقهى الـ«هورس شو». اليوم نجلس مع غابي لطيف في «سيتي كافيه»، وإلى طاولة قريبة يجلس رجل طاعن في السن، هو صاحب المقهى، وصاحب الـ«هورس شو» سابقاً.
ورغم أنها من دير القمر، لا تعدّ لطيف نفسها ابنة الجبل، إنها عاشقة للمدن وناس المدن، للسيارات وضجيجها للغبار والبنايات القديمة، للعجقة والبحر والكورنيش... من صباها في بيروت، وشبابها ونضجها في باريس، تعلّمت حبّ المدن. بيروت، باريس، وبرمانا حيث تقيم خلال زيارتها الخاطفة للبنان. ب ب ب، لكن ليس على غرار ديوان عباس بيضون، بل كما شاءت أيام غابي أن تسير، وتتقلب أكثر من مرّة. منذ تحمّست طالبة الإعلام في «الجامعة اللبنانية» للعمل مذيعةً في «تلفزيون لبنان» الجديد (1973)، وباتت من الوجوه القريبة من الناس، حتى جاءت الحرب وحطمت كل شيء: «كنت مثل كل صبيّة. عندي أحلام كثيرة في عملي في التلفزيون، وكنت من السبّاقات في الالتحاق بهذه المهنة العصرية في ذلك الوقت». بدأت العمل في برامج المنوعات مع رياض شرارة، جان كلود بولس، نهى الخطيب سعادة، وغاستون شيخاني.
وخلال عشر سنوات من وجودها في المدينة، حافظت بيروت على الحرب وحافظت غابي على إطلالة جميلة على التلفزيون، تعبر كل يوم بسيارتها من الأشرفية أولاً ثم من برمانا لاحقاً إلى الحازمية عبر القنابل والانفجارات، للوصول إلى الاستوديو في المواعيد، ومن ثم الابتسام في وجه المشاهدين كأنّها تؤدي دور الأمل. «كنا نريد أن نقول لبنان لم ينته، وبعدما طالت سنوات الحرب، لم أعد أحتمل المزيد من التناقض بين صورتي وما يحدث لي وللمدينة والناس كل يوم. جاءني عرض العمل مع «مونتي كارلو» فقبلت بلا تردد».
نجحت غابي في الإعلام، رغم أن حلمها القديم كان دراسة علم النفس والفلسفة في جامعة «السوربون» في فرنسا. رفض عائلتها لسفرها جعلها تتجه إلى التلفزيون. هذا السفر ما كانت العائلة لتستطيع الوقوف في وجهه بعد الحرب. هاجرت غابي لتصبح جزءاً من إعلاميّي «مونتي كارلو» وتغدو صوتاً قريباً من القلب.
في باريس، تعرفت غابي فعلاً إلى العالم العربي، كانت حريصة على توطيد علاقتها بالمراكز الثقافية العربية، ومتابعة كل جديد والمشاركة في المهرجانات والمؤتمرات الثقافية العربية. بعد احتلال بغداد، قدمت برنامج «باريس بغداد، بغداد باريس» الذي مثّل حلقة وصل بين العراقيين في الخارج والداخل. يذكرنا هذا بـ«مرسال الهوى» برنامج قديم لحكمت وهبي، يصل بين لبنانيي المهجر والداخل أيام الحرب. كثيرة هي البرامج التي عُرفت لطيف من خلالها: «الوجه الآخر»، «الصالون الشرقي»، «كواليس الإعلام»، «صفحات عربية»، واللقاء الثقافي الشهري حول طاولة مستديرة في «معهد العالم العربي» في باريس.
علاقتها بباريس علاقة أخذ وردّ. مدينة الأنوار منحتها الشهرة والأمان والحرية والثقافة، وعلمتها «قيمة الوحدة»... «لكنّها أخذت مني الفرح. هنا أعود طفلةً مرحةً ومشاغبةً. هناك أشعر بحزن شديد كأنّ على ظهري جبلاً». لكن ها هي تتذكر حين وصلت إلى باريس، وكان الثلج يغطي كل شيء. «لا أنسى أن باريس استقبلتني ودموعي على خدي بعدما دُمِّرت بيروت، وهُجّرنا من بيوتنا أكثر من مرة وسقطت القنابل فوق رؤوسنا».
تعيش غابي لطيف على الأثير. تحلم بأن تغيّر حياتها. وتعتقد بأنّها ما زالت قادرة على طيّ صفحات والبدء بصفحات جديدة. من بيروت هذه المرّة؟ لم لا! من يدري؟ لها أن تمدّ يدها وتغير الموجة والتردد، حتى تصفو وتتضح كل تلك الأصوات الآتية من الداخل. لها أن تعرف «شو بدّا» وهي ما زالت تلثغ بجملة كانت ترددها طفلةً «بدّي وبدّي وما بعرف شو بدّي».


5 تواريخ

1973
التحقت بـ«تلفزيون لبنان» للعمل مذيعةً

1986
هاجرت إلى باريس للعمل في إذاعة «مونتي كارلو»

2001
أدارت طاولة مستديرة كل أربعاء في المقهى الأدبي في «معهد العالم العربي» في باريس مع رموز الثقافة والسياسة

2009 ــ 2010
يصدر لها كتاب في مناسبة «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»